د. عماد الدين الجبوري
بعدما مالت كفة المواجهة العربية ضد العدو الصهيوني نحو خيار السلام طريقًا في تحقيق قيام دولة فلسطين وعاصمتها القدس، بمقابل الاعتراف بالكيان الإسرائيلي الغاصب للأرض، لا سيما أن بعض الدول العربية، التي دعمت هذا الاتجاه السلمي، لها ارتباطاتها مع الغرب عامة، والولايات المتحدة الأميركية خاصة. وبالتدريج تم طوي صفحة الكفاح المسلح في عملية التحرير، وانتقل القتال من فوهات البنادق إلى صالات الفنادق، وحلقات في سلسلة طويلة من اللقاءات والمؤتمرات في أماكن عربية وغربية.
وبنظرة سريعة إلى نتائج تلك الخطوات الهادفة إلى إحلال السلام والتطبيع مع العدو الصهيوني، ابتداءً من اتفاقية “كامب ديفيد” عام 1978، التي بموجبها استعادت مصر سيناء من إسرائيل، مرورًا باتفاقية “أوسلو” بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل عام 1993، التي توجب ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي بقيام الدولة الفلسطينية، إلى اتفاقية “وادي عربة” بين الأردن وإسرائيل عام 1994، والتي ترتبط مباشرةً بالجهود المبذولة في عملية السلام بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، وصولًا إلى تهافت التطبيع المجاني للإمارات والبحرين والسودان والمغرب مع إسرائيل عام 2020، وفق اسم اتفاق إبراهيم، أو “اتفاقات إبراهام”.
فإذا كان الاعتراف بدولة إسرائيل ضرورة يوجبها الواقع، إذ أن الحروب التي خاضتها الجيوش العربية ضد الكيان الإسرائيلي في 1948 و1967، و 1973، لم تحقق الهدف المنشود في تحرير فلسطين، بالرغم من أهمية “حرب الاستنزاف” التي خاضها العرب ضد إسرائيل، منها التلاحم بين المقاومة الفلسطينية والجيش الأردني في “معركة الكرامة” عام 1968، وكذلك تمكنت الجيوش العربية في حرب تشرين (أكتوبر) 1973 من كسر شوكة “الجيش الذي لا يقهر” وفق مزاعم إسرائيل، لكنَّ مجمل النتائج لم تثمر بالشكل المطلوب، لأسباب خارجية وداخلية منها، إنَّ السلاح العربي مستورد أمّا من الاتحاد السوفييتي أو من دول الغرب، وهم أول مَن أعترف بدولة إسرائيل. كما أن بعض الدول العربية لا تمتلك القدرة العسكرية الكافية، إضافة إلى متلازماتها بالسياسات الغربية منذ تكوينها بعد الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، ثم ارتباطاتها بالطرف الأميركي بعد الحرب العالمية الثانية (1941-1945)، وبذلك كانت معظم هذه الدول تميل إلى التسليم بسياسة الأمر الواقع، بل وكان لبعضها اتصالًا سريًا مع إسرائيل نفسها، حتى رست المقررات العربية لصالحها بالاتجاه نحو السلام، وتحقيق الأهداف المطلوبة عن طريق الحوار والتفاوض وإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي.
إلا أن هذه الضرورة التي توجب الاعتراف والتطبيع مع عدو غاصب للأرض وقاتل للشعب، لم ينتج منها غير المزيد من الضعف والهوان العربي تجاه الكيان الإسرائيلي، وضمن أية مقارنة بين عموم الوضع العربي سابقًا، وبعد اتفاقات السلام لاحقًا، فإنَّ إسرائيل كسبت الكثير والعرب خسروا وتقهقروا أكثر. فإسرائيل تمكنت من التمدد الدبلوماسي والتجاري والاقتصادي داخل المحيط العربي، ودول التطبيع (والسلطة الفلسطينية) لم تسطع وقف المعاناة اليومية للشعب الفلسطيني الرازح تحت نير الظلم والعنصرية التي يمارسها المحتل الإسرائيلي جهارًا نهارًا أمام أنظار العالم بأسره. كما أن اتفاقية “أوسلو” دخلت الموت السريري منذ أمد، بعد أن أفرغتها إسرائيل من محتواها، إضافة إلى اتفاقية “كامب ديفيد” وكذلك اتفاقية “وادي عربة” اللتان لم يجني منهما الشعبين المصري والأردني غير الحضور الإسرائيلي المفروض عليهم، وامتناع عموم المصريين والأردنيين من تقبل الصهاينة الإسرائيليين على أرضهم. ولذلك، كان قول العاهل الأردني الملك حسين عن الصلح مع إسرائيل، بأنه “صلح حكومات”.
وعليه، فإنَّ التطبيع إنّما ينم عن تدهور عربي مبيّن، وسوف يزداد هذا الانحطاط كلما تمكنت إسرائيل عبر الضغط الأميركي من جر دول عربية أخرى نحو هذا التطبيع من جانب، وغياب مشروع عربي يجمع الحد الأدنى من الإرادة العربية من جانب آخر.
وتُعدُّ السعودية من المحطات الرئيسة المتجهة نحو الاصطفاف في سكة قطار التطبيع مع العدو الصهيوني، وفي مقابلة لولي العهد محمد بن سلمان مع قناة “فوكس نيوز” الأميركية، قال عن المفاوضات بشأن العلاقة مع إسرائيل، بأنها ” تتقدم يومًا بيوم”. وفي الوقت نفسه، أكد على أن “القضية الفلسطينية مهمة لتطبيع العلاقات”. وهنا بيت القصيد، فالسعودية لعبت دورًا كبيرًا في مقررات قمة بيروت عام 2002، بالإجماع على “مبادرة السلام العربية” مع دولة إسرائيل، إلا أن الرفض الإسرائيلي لهذه المبادرة، وتمكنها في ما بعد من كسر هذا الإجماع العربي، ومّا تهافت دول التطبيع المجاني إلا دالة واضحة على أن السعودية ليس بمقدورها أن تحقق للقضية الفلسطينية ما عجزت عنه هذه الدول، ومن قبلها مصر والأردن.
بعبارة أخرى، ليس هناك ما يلزم الكيان الإسرائيلي بأن يذعن ويستجيب للشروط السعودية حول القضية الفلسطينية، وكذلك لا تمتلك السعودية من أدوات الضغط غير التوقف عن سير المفاوضات أو الانسحاب لا أكثر، وفي كلتا الحالتين قد حققت إسرائيل خطوة متقدمة، إذ مجرد الكلام الرسمي السعودي عن التطبيع مع إسرائيل هو عامل مساعد على تهيأت العقول والنفوس في قبول الوجود الإسرائيلي في البيئة العربية. كما أن إسرائيل ستراهن، كالعادة، على العنصر الزمني في ترويض من يلتزم بقوة في مناصرة القضية الفلسطينية. وهكذا، سيستمر تدهور الموقف الرسمي العربي، فلا دول التطبيع قد حققت المراد المطلوب للقضية الفلسطينية بدولة ذات سيادة قابلة للعيش والاستقرار الفعلي والعملي، ولا خطوة السعودية القادمة ستضيف شيئًا جديدًا مغايرًا عن سابقيها، وبذلك فإنَّ مجمل عملية السلام مع إسرائيل مجرد سراب للعرب، ومكسب مسهب للعدو الصهيوني.
عذراً التعليقات مغلقة