عزيز باكوش
كاتب وصحافي من المغرب
مع تداعيات زلزال الحوز المدمر بالمغرب يوم 8 شتنبر الماضي، طفا على سطح الأحداث المأساوية تَهافتٌ محمومٌ لقنص صدماتِ الناس ونتْئ جراحاتِ المكلومين وذرّ الملحِ على مواجعهم، ليس بهدف التضامن والتعاطف واقتسام الأضرار، وإنما للاستثمار فيها ولإشهارها قصد المتاجرة من خلال ورفع منسوب المشاهدات على المنصات سعيا وراء مكاسب مادية.
يتعلق الأمر بتهافت إعلامي وتغطيات صحفية راجفة رافقت تطورات الزلزال وتداعياته النفسية والاجتماعية. أصوات نشاز كل رأسمالها هاتف ذكي أو كاميرا مجهزة بميكروفون يتدلى، واندفاع جنوني يتخطى كل الحدود. أصوات أقل ما يقال عنها انتهازية متطاولة تتقن فن النصب والاحتيال، وتلعب على أوتار المتاجرة بمآسي الناس على منصات التواصل الاجتماعي لا سينا منصة اليوتيوب، باسم الصورة وعليها. والحصيلة تغطيات ” تعريات بالأحرى” صادرة عن أصوات اقتحامية حجت لموقع الحدث بالمآت، وفقاعات إعلامية تجريبية ولدت على عجل من أمرها. ولأنها كذلك ، فهي لا تؤمن بالحميمية الذاتية ،ولا تقيم اعتبارا لخصوصيات الإنسان. ولا لأدبيات وأخلاقيات مهنة الصحافة إنها رهط من السماسرة المضاربين أو الشناقة. وجد الطريق سالكا، فعبروه على حين غفلة. وما هي إلا ساعات، حتى بات طنينه مسموعا وأثره جاذبا للذيوع والانتشار.
وكتب الدكتور يحيى اليحياوي في صفحته الرسمية على الفايسبوك واصفا هؤلاء ” صحفيون” كالفطر، خرجوا جميعا ولكأنهم خرجوا من جوف زلزال الحوز…”بونجا ف عصا ديال الشطابة”، ” ميكروفون طويل ” وقناة ماسخة على اليوتيوب، وها أنت “صحفي” بالبث المباشر من دواوير الحوز…هذه مهزلة…هذه مذبحة تتعرض لها مهنة خلناها آخر المعاقل لصد الدخلاء، فإذا بها تصبح مشتلهم بامتياز…أكثر من عشرة أنفار، تحملقوا حول شخص يدعى “نيبا”، وهو على أبواب الحوز فاتحا، ليرتووا من علمه ومعرفته واطلاعه على مجريات عمليات الإنقاذ… الصحفيون الكبار، يضعون كلمة “صحافة” فوق خوذتهم أو على أقمصتهم، كي يميزهم المتحاربون في أرض المعركة…فيما واحد ممن “تجوقوا” حول “نيبا”، وضع سيجارة خلف أذنه واصطف مع المصطفين…يبدو أنه ولج المهنة حديثا، قادما إليها على عجل، من ورش بناء أو من خلف قطيع مواشي…”
لماذا تناسلت هذه الأصوات والفقاعات الإعلامية بفظاعة إلكترونية مريبة؟ وكيف تسنى لها ذلك؟ الشيطان وحده وحكومة أخنوش يعلمان بأدق التفاصيل.
وإذا كان الهدف المصوغ لهذه التقليعة، هو نقل الحدث الإخباري وكل ما يتعلق بالزلزال وتداعياته. ووضع المتلقي الافتراضي في صورة الأحداث بمنتهى الواقعية والمهنية وفق منطق ” الخبر مقدس والتعليق حر” كما تنص على ذلك التشريعات والقوانين والضوابط الأخلاقية. لاسيما الأخبار المتعلقة بالكوارث الطبيعية مثل الفيضانات والزلازل، بوصفها أحداث تتسم بسرعتها وتدفق الأخبار المتعلقة بها لحظة بلحظة. فإن ما حدث من تغطيات إخبارية لهذه المهنة النبيلة باسم ما يدعى ظلما وعدوانا ” الإعلام البديل أو إعلام المواطنة إلى غير ذلك من التسميات، أمر خطير للغاية وعلى درجة قصوى من التبخيس والإساءة، بل الأشد إساءة لمهنة صاحبة الجلالة على الإطلاق.
لقد كشف زلزال الحوز بتداعياته المأساوية ماديا وبشريا عورات العديد من المنتحلين لصفة صحفي. ليس لكون جل محاوريهم يتم انتقاؤهم بكيدية. وأنهم لا يعيرون أي اهتمام للحرمات. بل كل ما يهم هو الكلام على عواهنه فبدل التركيز على إبراز مظاهر الأرض ومشاكل التعمير والصعوبات المجالية ،بكلام متزن وهادئ سلطوا الضوء مأساة الناس ببشاعة ركزوا على إظهار المأساة بكلام الشوارع . فالنساء يظهرن على طبيعتهن والشيوخ في أوضاع مأساوية فيما الأطفال يتحولون ببراءتهم إلى معرض مفتوح على الهواء الطلق يعلن مآسي الناس ولا يكترث بأعراضهم.
لقد سمحت هذه المرحلة السياسية الموبوءة ببروز فئة من النصابين والتافهين وعديمي الأخلاق. فئة لا تتقن الكلام السوي لدقيقة واحدة، ليس لكونها لا تحمل وضعية قانونية فحسب، بل لأنها لا تتوفر على رصيد مهني ومعرفي كاف. ولا قاعدة معطيات مهنية تبني عليها تصوراتها. إنها غير مهنية وغير متمكنة من ابسط آليات شروط التواصل الاجتماعي لتحتل بذلك صدارة المشهد الإعلامي على منصات التواصل الاجتماعي.
ويرى العديد من المتتبعين لمنحنيات النمو وسرعة الاتصال والتواصل في المجتمع. أن تساهل السلطات الحكومية مع هذه الفئات التي تزعم أنها تمتلك من القوة ما يجعلها قادرة على التأثير في المجتمع كما تشاء. أمرا غير مقبول تماما. وأن مجرد تركها تعبث بحرية ودون ضوابط لسنوات طوال جعلها في وضع مناف للقوانين والتشريعات. وأصبحت مؤسسات إعلامية بل مقاولات ناجحة في إنتاج المحتويات المغرضة والأخبار الزائفة. ولابد من أن نذكر هنا أنها كذلك فلول مارقة خارج سيطرة القوانين والتشريعات غير عابئة بالأضرار النفسية والاجتماعية التي تخلفها.
ولأن ممارسة مهنة الصحافة ليست هواية يمكن أن يقوم بها كل من هب ودب. ويبادرها من لا يتوفر على التكوين الأساسي والخبرة المهنية الضرورية للقيام بها على أحسن وجه. أو مجرد محاولة من طرف أشخاص بلا وضعية اعتبارية للحصول على المكانة الاجتماعية التي تخولها لهم هذه المهنة النبيلة. فإنها اليوم في هذا الظرف السياسي الموبوء باتت لها شأن آخر. وتقليعات عولمية مارقة، ما فتئت تسلط أضواءها القاتمة على السفالات والتفاهات والترهات، وتجتهد في صناعة الألقاب الغارقة في الخرف. فئة من النصابين والمنتحلين وعديمي الأخلاق والمتاجرين في حرمات الناس وأعراضهم تقلدت مناصب وهمية أو قلدوها الأمر سيان. فأصبحت تترأس مجالس الإدارة وهيئات التحرير في مواقع إخبارية إلكترونية صممت لهذا الغرض. وسمحت لنفسها العبث بضوابط مهنة الجلالة ظلما وعدوانا.
فكل من ادخر كمشة دراهم، بدل صرفها على أقساط ومستحقات في معهد إعلامي متخصص يلقنه مبادئ الصحافة وتقنيات الرسم والكلام، اقتنى هاتفا ذكيا ثبت في خصره مايكروفون. وأطلق على وهمه إسما ورمزا، ورمى صنارته للاصطياد في الماء الإخباري العكر. مهنة الصحافة التي كانت إلى زمن قريب نبيلة بأخلاقيات ومواثيق والتزامات، باتت اليوم مهنة التطاول بامتياز. لهذا وذاك، باتت وضعية المشهد الإعلامي الوطني غير مطمئنة بالمرة مع تناسل ظاهرة الانتحال لمهنة صحفي، ووقوف الجهات الموكول إليها السهر والضبط موقف المتفرج حيال العديد من الصفات المزيفة والمواقع الإخبارية المضللة والحسابات المشفرة والغير قانونية.
إن الوقت قد حان للتساؤل حول التدابير والإجراءات المفروض اتخاذها اليوم وليس غدا قصد الحد من انتشار هذه الظاهرة التي تسيء لمهنة الصحافة. وإيجاد السبل الكفيلة لحمايتها من كل أشكال العبث والارتزاق.؟
عذراً التعليقات مغلقة