د توفيق رفيق التونجي
أعني بالنجدين الخير والشر والذي ابتلى بهما الإنسان العراقي منذ تأسيس الدولة العراقية، وخاصة بعد الانقلاب العسكري الدموي) ثورة تموز (الذي انتهى به عصر النظام الملكي المؤسساتي في العراق صبيحة الرابع عشر من تموز من عام 1958.
العسكر سيطروا على أجهزة الحكم وانتهى عهد النظام البرلماني الديمقراطي بكل محاسنه ومساوئه حيث انعكاس الصراع الدولي على النفوذ والسيطرة وما يسمى محاربة التيار الشيوعي القادم الشرق من اتحاد الجمهوريات السوفيتية. ذلك الصراع بين المعسكر الرأسمالي والاشتراكي كلف الشعب العراقي خيرة أبنائه. الصراع الدموي بدأ ومنذ العهد الملكي، ثم اخذ الصراع يصبح اكثر دموية بين القومين الذين ادعوا بانهم فجروا الثورة بزعامة عبد السلام عارف والمتأثر بأفكار جمال عبد الناصر والاتحاد الاشتراكي العربي من جهة، ومن جهة اخرى نراه رئيسا مؤمنا يزور الجوامع وينقل مراسيم أدائه لصلاة الجمعة عبر التلفزيون ،ولكنه في ائتلاف مع حزب البعث العربي . ثم ينقض على رفيق دربه الزعيم الأوحد عبد الكريم قاسم والذي سانده القوى اليسارية والحزب الشيوعي والبارتي(الحزب الديمقراطي الكوردستاني) على الاقل في السنوات الاولى للثورة. بعد اربع سنوات ونيف يتم قتل الزعيم دون اي محاكمة في دار الإذاعة العراقية وتبدأ تصفيات جسدية لقوى اليسار والكورد.
اتذكر يوم الانقلاب حيث كنت بمعية اخي الكبير المرحوم علي وسط مدينة كركوك وقرب بناية المحاكم الذي شهد بعدايام اعدام خيرة ابناء المدينة. كانت سيارة الإسعاف العسكرية ومن مذياعي يردد أسماء المعدومين , ناعتا اياهم بنعوت نابية في حين كان احد رجال الانضباط العسكري يضرب بعصاه الجسد المدلى والناس في هرج ومرج بين بكاء وعويل وهلاهل نسوة فرحين في لوحة سريالية حقيقية. حين بدأت شرطة المرور بصافراتهم ينذرون والعامة من الناس يهرلون في جميع الجهات والهلع بادئ على وجوههم. كما ذكرت تعني التغير وهذا يفرح الجماهير والأطفال بالدرجة الاولى.
كانت سيارات الإسعاف العسكرية تدور في شوارع المدينة حيث يذيع احد الجنود البيانات العسكرية وتسمع أصوات الموسيقى العسكرية المارشات.
وبين الحين والاخر يعلن عن ايام العطل للتلاميذ المدارس. الثورة على الأقل كان مفرحةللاطفال ومقلقة للكبار.
العهد الملكي بحسناته وسيئاته ارسى دعائم الدولة المؤسساتية الحديثة وبدا بأعمار البلاد والبنى التحتية والجسور و السدود والمشاريع الاروائية شارك المهندسين الانكليز في تصميم بغداد على غرار عمارة لندن العاصمة البريطانية، ومن ثم عاد الطلاب الذين درسوا في الجامعات البريطانية واستمروا على نفس تلك التصاميم.
كانت مدينة كركوك محظوظة بعض الشيئ على الاقل عمرانيا ،اذا استثنينا العاصمة بغداد، بالمقارنة مع المدن العراقية لوجود شركة نفط الشمال(أي بي سي) بعد ان اكتشف اول بئر للنفط في باباگرگر ،وللعلم كانت تلك الآبار معروفة منذ الآلاف السنين وكان احدى العوائل الكركوكية ) نفطجي زاده( تبيع نفطها من بحيرات النفط التي كان النفط يطفو فوقها في برك يجمعها العاملون بالاسفنج ويباع في المدينة، وحتى كانت هناك اراض يخرج منها الغاز محترقا وتلك النيران الازلية موجودة لحد اليوم في حين كان الرمل المحيط بالمكان مالحا ويستخدم مع مائها لامور علاجية من قبل ابناء المدينة. باباگرگر اعتقد ان لها قوة شفائي اذ يقول العامة:
“دخيلك يا باباگرگر.”
الغريب ان الطرق في المدينة لم تكن مبلطة بل تاتي سيارة بالنفط الاسود وترش الطريق ، تصوروا مدى الهدر بالثروة الوطنية. شركة النفط ،وبعد اكتشاف النفط تجاريا ،بنت حيا حديثا اسمته “عرفة” تيمنا بالاسم التاريخي للمدينة) ارباخا اواربخا( على غرار الأحياء الانكليزية عصريا حتى كانت هناك مروحة في الصالة، وشاهدنا لاول مرة خزانات ملابس ثابتة على الحائط حيث كان العامة يشترون الكنتور (دولاب الملابس) من محل المرحوم علي مغدور خلف بناية سوق الهرج في شارع الجمهورية الذي يبيع الموبيليات ،والتي اشتهرت برخصها، بينما كان العصامي شكر نجار يبيع الموبيليات(القنفات) الغالية لعلية القوم من الأغنياء.
على ذكر الكرويتة الطويلة التي كانت عادة تتواجد في المقاهي المنتشرة حول التلة التي تعلوها قلعة كركوك وكانت مزدهرة قبل بناء المقاهي الحديثة في الصوب الصغير على الطرف الاخر من نهر ادهم الجاف الذي تحول الى مكان يؤمها الجنود بعد بدء الحركات العسكرية في كوردستان في الستينيات.
بنى الانكليز كذلك مقرا للشركة وملعبا لكرة القدم واخر للگولف ومحطة قطار ياخذ العمال الى أماكن عملهم في (ك وون) وتم بناء مستشفى وكانتين كبير كمطعم للعمال وامور اخرى كثيرة، وكان هناك مجلة باسم” اهل النفط ” تغيرت عنوانها على ما اعتقد في العهد الجمهوري الى”العاملون في النفط ” وامور اخرى كثيرة حديثة وجديدة على مدينة جل ما كان فيها من عمار في قلعتها .ثم بدأ العثمانيون ببناء بعض الأبنية الحكومية والعسكرية في الصوب الصغير الذي كان يفصله من الصوب الكبير اي القلعة نهر جاف يعبر الناس جسرا حجريا تم بناؤه في العهد العثماني، بعد ان بدأت المدينة تتوسع على الطرف الاخر اي الصوب الصغير. وكانت منطقة قورية الشعبية قرية صغيرة ومنطقة تسعين غابات لسيدة يهودية غنية. كان لليهود حي في القلعة ومقبرة كما كان للمسيحيين الذين كان العامة يسمونهم ” قلعة كاورى” وبعض القرى الصغيرة المحيطة بالقلعة وبعض الغابات او البساتين.
محلة القلعة كانت تمثل عراقا مصغرا ومتحفا بشريا ذي ارث ثقافي تعددي بديع.
لا ريب بان القلعة كانت من الناحيةالعسكرية حصنا منيعا وحتى السنوات الأخيرة قبل هدم المحلة لان الهاربون عن العدالةمن مناضلين يحتمون بينجدرانها بيوتها المتلاصقة والتي كانت تؤمن الهروب من سطح بيت الى اخر والاختباء. هذا ما كان وراء قرار إعدام القلعة 1991 وهي جريمة لا تغتفر ولم يتمكن احد الكتابة او النطق بكلمة معارضة امام هذا الحدث الجلل في طمس تراث وذاكرة امم وعقائد. نعم ان تلك الجريمة يجب الكتابة عنها وتنوير العراقيين عن اهم انجاز حققه الفكر القومي السلبي في العراق الحديث والذي قامت به حكومة حزب البعث منحصرا.
بالمناسبة أتذكر ان الدكتاتور شاوشسكو أراد إزالة مستشفى وسط المدينة كان بناؤها يعود الى مئات السنين وعلى الطراز الباريسي الفرنسي الذي كانت تعرف بها مدينة بوخارست وتكنى ب “باريس الشرق”. اتذكر كيف قدم العديدون انفسهم قرابين للدفاع عن ذلك المستشفى من اطباء ومثقفين ومعماريين.
اما في مدريد عاصمة
اسبانيا فقد اكتشف وقرب القصر الملكي وبجانب الكاتدرائية واثناء بناء حديقة عامة جزء من جدار او سور المدينة من العهد الإسلامي فتوقف البناء، والان المكان ذو سور ومعلومات حول باني السور ،وتسمى الساحة باسمه. تأسست المدينة في عهد الأمير محمد الأول بن عبدا لرحمن الثاني في عام 855م، وأطلق عليها المسلمون الأوائل اسم (مجريط) ، الشيء بالشيء يذكر كنت وخلال ١٦ عاما عضوا في هيئة الثقافة المنتخب في مدينة يونشوبنك السويدية وأثناء اجراءمسح اركلوجي (الاثاري) للمكان قبل البدا بالبناء أي دور سكنية وسط المدينة اكتشف اجزاء من سور القصر الملكي. توقف البناء واحتفظ بتلك الأجزاء من السور يمكن زيارته تحت العمارات السكنية. اما في العاصمة الالمانية برلين فلا يزال جزء من جدار برلين الذي كان يفصل بين شرقها وغربها الى وقت قريب. وامور اخرى كثيرة في الاحتفاظبالأبنية التراثية القديمة لأهميتها للذاكرة الجمعية للشعوب. وتعتبر اثار مدينة روما القديمة التي تجلب ملايين السواح كلعام الى ايطاليا ويعتبر ثروة تراثية وطنية وارثا للإنسانية.
نحن بحاجة الى وعي جمعي لقيمة الإرث الثقافي الذي تركه الأجداد وإبعاد أيادي الشريرين عن هدم ومحو ذاكرتنا.أليس الحفاظ على التراث مسؤولية إنسانية؟
الأندلس
٢٠٢٣
عذراً التعليقات مغلقة