لا تَشْكُ للناس جُرْحَا أَنْتَ صَاحِبُهُ لا يُؤْلِمُ الجَرْحُ إلا مَن بِهِ ألَمُ
الشاعر كريم العراقي
د. توفيق رفيق آلتونچي
العراق مصطلح جغرافي غير قومي ،وتاريخيا كان مسكنا لعدد من الأقوام و الشعوب منهم من جاء لاجئا طالبا للعيش بسلام ومنهم من جاءه جائعا ليطعمه ثمر السواد ومنهم مَن غزاها واحتلها وسباها ،ومنهم من جاء من اجل الثروة او الجاه والسلطة ومنهم من أمها طالبا للعلم او متصوفا في رحاب العلم وصاحب شبابا إخوة له في الصفا و خلان الوفا.
مأوى شهداء صحراء كربلاء وبيت الأئمة والصحابة الكرام و مركز العلم و النور. بلاد الرافدين اي بلاد نهري دجلة والفرات من المنبع الى المصب وهذا ليس ما نراه اليوم من حدود الدولة العراقية الفتية بل اكبر من ذلك بكثير وحتى هي ليس بالتسمية التي اطلقتها اليونان اي بلاد ما بين النهرين فهي تختصر الحدود بين النهرين فقط لكن واقع الأمر مختلف تماما حين نقول بلاد الرافدين.
العربية كلغة منطوقة كانت منحصرة في جزء من الجزيرة العربية إبان السنوات الأولى لنزول الرسالة المحمدية ،هنا يجب ان انبه القارئ الكريم باني اعني اللغة المنطوقة اما كتابتها اي حروفها فهي موضوع منفصل.
لا شك انه كانت هناك لهجات يتحدث بها معظم الشعوب من متحدثي العربية لغة او ثقافة. الفرق بين اللغة الثقافية و اللغة القومية يأتي من كون الأولى مكتسبة تنطق وتتحدث بها الشعوب المستعربة او الشعوب التي جاورت العرب والبعض منهم نست او زالت واندثرت لغاتهم الأصلية. تلك اللغة التي كان أجدادهم يتحدثون بها. تلك اللغة الثقافية تكونت وعبر السنين كنتيجة مباشرة لدخول تلك الشعوب الى الدين الإسلامي حيث جميع الشعائر الدينية تجرى بالعربية كما ان النص المقدس اي (الذكر الحكيم) انزل على الرسول الأعظم و كتب كذلك بالعربية.
لغة القران الكريم لغة ما يعرف بلهجة قريش التي انزل بها نصوص الذكر الحكيم .هناك كذلك كلمات من اللهجات العربية التي كانت منتشرة انذاك لذا اللهجات، القراءات السبع للقران الكريم اشارة واضحة لوجود تلك القراءات المنطوقة. اما العربية كلسان وكلغة فهي كانت منحصرة بين ابناء شبه الجزيرة العربية منحصرة (هناك نظريات اخرى حول اصول اللغة العربية احدثها انها جاءت من منطقة الجغرافية المسماة الشام والله اعلم) وهؤلاء ممن هاجرو من المجاهدين من الجزيرة الى أصقاع العالم لنشر الدين والجهاد في سبيل الله. كانت في الجزيرة العربية لهجات اخرى ونطق مغاير لما كان ينطق به القريش العربية في حديثهم اليومي . نلاحظ كذلك وجود اختلاف واضح بين تلك اللهجات العربية حتى وقتنا الحاضر. نرى ذلك حتى في الجزيرة العربية نفسها. من هنا جاء القراءات السبع المعروفة للقران الكريم.
هناك لهجات في معظم لغات شعوب التي تتحدث اليوم العربية كلغة قومية او ثقافية.لا بل نجدها اي اللهجات داخل اطار الدولة المستقلة. الفرق بين اللغة القومية والثقافية وكما أسلفت هي في كون الأول لغة القوم اي العرب والثاني ثقافية لجميع الشعوب التي تعربت نتيجة دخولها للدين الإسلامي في كافة أصقاع الدنيا. خذ مثلا دول شمال إفريقيا بحضاراتها القديمة كانت لها لغاتها القومية وبقت اثار تلك اللغات في لهجاتهم وحديثهم وحتى في أسلوب حياتهم. لأنه وكما ذكرت آنفا ان شعائر الدين تقام باللغة العربية اينما كان المسلم في البوسنة و البانيا و إندونيسيا والفلبين وتركيا وايران وكافة الدول التي تتواجد فيه المسلمون وحتى في الصين.
التسميات الحديثة في اللغة العربية، كما في قواعد اللغة والتنقيط وإشارات، حديثة العهد حيث قام العالم الخليل بن احمد الفراهيدي بوضع تلك الإشارات بحروف صوتية صغيرة وبذلك رسم اصوات الحروف والتي كانت تنطق ولا تكتب كالهمزة، الضمة، الكسرة والتنوين وذلك بإضافة ألف صغيرة و مائلة فوق الحروف للدلالة على صوت الفتحة، ووضع ياء صغيرة تحت الحرف للدلالة على صوت الكسرة، و وضع الواو الصغيرة فوق الحرف لتدل على صوت الضمة، لتسهيل قراءة ولفظ الأقوام الغير عربية للكلمات لان العرب كانوا يعرفون لفظ الكلمات من سياق الجملة ولم يكونوا بحاجة الى تلك الإشارات والتشديد و التنوين الى التنقيط اوحتى الى القواعد الذي وضعه العالمان الجليلان سيبويه و نفطويه. تلك التحديثات لا توجد لها اي صله بما كانت عليها اللغة الدارجة في الجزيرة العربية بين قبال العرب والبدو قبل اكثر من الف وخمسمائة عام. انظر مثلا للقراءات المختلفة حتى للقرأن الكريم.
كانت اللهجات العربية للقبائل تختلف وهي شبيهة بما كانت سائدة في جميع انحاء العالم، ولم تكن هناك لغات وطنية يتحدث بها الشعب ومعظم الشعوب لم تكن تتكلم لغة واحدة كما عليه اليوم ان كانت في المانيا او فرنسا او بريطانيا بل كانت هنك دوما لهجات عددة لتلك الشعوب تطورت احداها الى لغة وطنية. وحتى ضمن حدود نفس المدينة كانت هناك لهجات وحتى لغات متعددة . نرى مثلا ان اليهودي في يثرب لم يكن يتكلظم العربية ولا النصراني من المسيحيين بل كان لهم لغاتهم الخاصة بهم وان تحدثوا العربية فكانت نطقهم للكلمات متباينة كما عليه الحال لحد يومنا هذا.
اليمني الذي قصد يوما المدينة لم يتحدث مع الناس باللهجة المتداولة بل بقى محتفظا بلغته الحميرية وحتى كتابته المسندية. الجدير بالذكر ان هذا الامر نراه لحد يومنا هذا اي ان الشعوب تتحدث بلهجات مختلفة. تلك اللهجات تحتوي على مفردات جاءت من لغات الأصلية للشعوب نفسها. يضاف الى كل ذلك التأثير البيئي والمناخي على لفظ الحروف والكلمات ودرجة اتصال تلك الشعوب مع الأقوام الأخرى.
تعلم وتعليم اللغة كانت في يوم من الايام منحصرة كتابتها وقرأتها بعدد قليل من الناس وخاصة من رجال الدين و ذريتهم والملوك. نرى اثر ذلك في استخدام رجال الدين لحد اليوم مثلا اللغة العربية الفصحى في التخاطب والحديث كما نرى ان القساوسة من المسيحيين يرتلون في الغرب عادة النصوص المقدسة باللغة ألاتينية التي لا يجيدها العامة عادة.
الخط المسندي اليمني
اعتقد بان اليهودية احتفظت بلغة يمكن ان يقرأها اي شخص كنص حتى وان كان النص كتب قبل الآلاف السنين.ولم يجر اي تغير على الكتابة واحرفها لذا فان اي تلميذ في المدرسة يمكنه قراءة تلك النصوص القديمة.
اللغة كائن حي وحاجة إنسانية للتواصل والتخاطب والتفاهم والحوار الإنساني. ناهيك عن تأثير الصوت البشري على حواس البشر خاصة الصوت الغنائي حيث لا تزال صوت المطربة المصرية الراحلة السيدة ام كلثوم لا تزال تفعل تاثيرها الوجداني على المستمع. اما نطق الكلمات فتختلف من مكان الى اخر وقد تعكس حروفها او تدغم او تلفظ باشكال مختلفة وحتى احيانا تسقط منها بعض الحروف ولكن معناها تبقى ثابتة مهما كان اللفظ. تلك التغيرات في اللفظ ترتبط بالبيئة كذلك فانطق في البيئة الصحراوية غير النطق في المناطق الرطبة وقرب سواحل البحار.
اللغة الثقافية وهنا اقصد العربية انتشرت عن طريق الدين مع فتح المسلمين للغرب وشمال إفريقيا في الفترة الأموية والعباسية ،لكنها لم تنتشر شرقا وبدرجة اقل عن طريق الدولة العثمانية خاصة في فتوحاتها الحواضر الأوربية حيث وصلت جحافل جيوشهم الى اطراف فينا عاصمة النمسا. ولم ينشر العثمانيين حتى لغتهم اي التركية والتي بقت منحصرة فقط بجزء من شعب تركيا اليوم بينما احتفظت دول اخرى لغاتها كالفرس والكورد والارمن والسريان والترك والهنود والمغول والتتار والغجر وشعوب شبه الجزيرة الهندية وأفغانستان ومنغوليا والصين ودول الشرق الاقصى ومعظم شعوب حوض بحر قزوين رغم دخول تلك الشعوب الى الإسلام وفي سنوات مبكرة. أتذكر المرحومة والدتي رغم إجادتها اللغة العربية وبطلاقة فهي لغتها من ناحية الآم فقد كانت تنوي الصلاة بالكوردية ومن ثم تستمر بالعربية
.
هذا ملا ضيف الجبوري ينشد أجمل الأشعار الشعبية في الحاضرة كركوك.
أبد مايـــــــروح طاريكم من البال
بكيت وغـــــرقن زياقي من البلّ
أنا عليكم شبه خايرتَن مـن البِـــل
تحنّ وعاالــــــــــولف تلوي لرقاب
بقى ان نعلم انه تاريخيا لم يكن هناك اي تاثير انتشار لغة الدين بينهم وبقوا تلك الشعوب يتحدثون بلغاتهم في حياتهم اليومية بينما يؤدون الشعائر الدينية بالعربية. كنت في مجلس لبعض الدراويش الكسنزانية في بين احد الأصدقاء في كركوك قبل اكثر من نصف قرن حين بدا الإنشاد الديني والدق على الدفوف وكان النص خليط من العربية والكوردية وتساءلت احد المنشدين عن فحوى النص فقال بانه لا يجيد العربية انما حفظ النص على ظهر قلب.
اما حين ندرس اللهجة البغدادية مثلا فترى أنها خليطة من عدد من المفردات الأجنبية ولا يفهمها حتى جميع العراقيين. الجدير بالذكر بان الكورد والتوركمان والسريان حال استيطانهم في بغداد يبدأ أبنائهم بتعلم تلك اللغة الدارجة وبعد جيل ينسون تماما لغات أجدادهم في عملية تنصهر فيها ثقافتهم الأصلية مع ثقافة المدينة وهذا ما حصل لي ولبعض من إخوتي ممن نشئوا وترعرعوا في بغداد لا يزال يتحدثون فيما بينهم بالعربية بينما نحن الكبار نتحدث اما بالكوردية او التوركماية كنتيجة للاختلاط الثقافي بين تلك الامم في مجتمع الحاضرة كركوك. هذا يعني تحول ثقافي فقط اي ان العادات والتقاليد تبقى على اصولها وما تعلمه الفرد في بيته وهذا يشمل المطبخ اي الماكولات والمشروبات وكل قوم يحتفظ بمطبخه واسلوب حياته البيتية والعائلية. حتى مرور الزمن لا يؤثر ولا يغير من تلك الأعراف والتقاليد والعادات وهذا ما نراه جليا في مجتمع الكورد الفيليين فرغم انهم يتحدثون العربية واحيانا لا يمكن اكتشاف قوميتهم لاجادتهم االغة العربية وبطلاقة وكما يحصل مع الكوردي الذي يتكلم العربية (مكسر) القادم من اربيل حين يتحدث بالعربية وبنطق ككردي ان صح التعبير ويرى صعوبة كبيرة في التذكير والتانيث . بينما الفيلي يتحدث العربية بطلاقة وربما نجد بعض المفردات من لهجته في حديثه ولكن تلك المفردات وكما ذكرت باتت جزء من اللهجة البغدادية العربية. الشعر الشعبي في العراقي يتكون من:
العمودي والدارمي والزهيري والابوذية والعتابة ويتقن الشعراء الشعبيون أنماطا من الشعر الشعبي الحر الغير تفعيلي.
قصيدة المجرشة احدى اشهر الاشعار الشعبية في العراق كتبه الشاعر للملا عبود الكرخي والقصيدة مكتوبة بلهحة الفرات الأوسط وقد غنى المطرب العراقي الأشهر يوسف عمر هذه القصيدة وانتشرت في العراق ابان العهد الملكي .
ساعة واكسر المجرشة
وألـعن أبـو السـواها
إشـجم سـفينة بالبحر
يمشي ابعكسها اهـواها
إيصـير أظلّن ياخلكك
متـجابلة آنـه ويـاها
كـلما يكـيّرها النـذل
آنـي بحيـلي ابريـها
لا ريب ان في العراق لهجات عربية تختلف من مدينه الى اخرى وحتى في داخل أحياء المدن نفسها وهذا طبيعي اذا عرفنا بان العراق وعبر التاريخ كان موطنا لشعوب وأقوام ومنذ عشرات الدهور والدهر الف عام. هناك لهجة شمالية تقترن بمدينة موصل والقرى المحيطة بها وهي لهجة قريبة من حيث الكلمات واللفظ للهجة العربية التي يتحدث بها يهود وسريان العراق وتسمى اللهجة المصلاوية وهي قريبة مذلك للهجة مدينة تكريت. هذا نموذج للشعر الموصلي من صفحة سوالف مصلاوية:
جـــــــت حسنية عالجـامعـة وصدغيتــه من الغدن مفتوقـــة
جــــت وليبسي تنورة فتحتــه شبغين وفوق الفجعــة مشقوقـــة
والشعغ ذيــل حصان والقرديلا على شعغه حيـــل محزوقــة
جيتـــــو دتعرف عليهــا قتولا انا فقيـــغ وحالتي مسحوقـــــة
قلتلي ول امشي صيــغ انت مابيـــك حيل كنيـك خوقـــة
ولهجة بغداد ومن ثم لهجة البصرة الجميلة واللذيذة. كما ان هناك لهجات للمدن والشرقيين ( هذه اللهجة صعبة ولا يفهمها جميع العراقيين يكتب بها الشعر الشعبي في الجنوب والوسط).
هذا احد المظلومين ينشد طالبا في مدينة العمارة من اهله كي ينصفوه.
عليه اشطرن وسفاتي، بلعظيم
ومن مثلي يخلك الله، بلعظيم
الرجا والمنتكل كله، بلعظيم
واريد من الدشر جوله ضحويه
وهناك لهجة عشائر الدليم وعرب كركوك وديالى كما نرى وبوضوح لهجة عربية في الأماكن المقدسة في كربلاء نجف والكوفة كذلك تقترن دوما بلفظ الفرس للكلمات العرببة كاستخدامهم المطول لكلمة ( واقعآااااان). هذه اللهجة يحبذها رجال الدين من الشيعة في حديثهم مع مستمعيهم وفي المناقب لكني لم أجدها في الأناشيد الدينية التي يرددها الرواديد في ايام عاشورا وما تسمى ب (الطمية) فهي نصوص من الشر الشعبي .هذه قصيدة روح الأمين جاءت إليه من السماء للشاعر جابر الكاظمي:
جـاءَتْ إلـيـه مـن الـسـَّمـاء
وبـكـفِّـهـا ثـوبُ الـبهاء
قـالَـتْ وأَدْمـُعُـهـا دِمـاء
خُـذْ ثـوبَ مـَجـْدِكَ يـا حـسين
تبقى الثقافة العربية هوية للعراقيين بمختلف قومياتهم واللهجة العراقية العذبة هوية عراقية يحملها العراقي أينما حل وفي كل الأزمان والعصور.اما اختلاف اللهجات فتلك اغناء للغة ووسيلة تعريف لهوية المتحدث وانتماءه الثقافي.
اشارات:
الصورة الأولى على ما اعتقد من دار الأزياء العراقية تمثل بوتقة الشعب العراقي بجميع مكوناته البديعة وبملابسهم التراثية والشعبية.
للمزيد حول الرموز و الاشارات ومواضيع اخرى راجع صفحات صحيفة “قريش” اللندنية تحت الرابط التالي:
الأندلس ٢٠٢٣
عذراً التعليقات مغلقة