عبد السلام الصديقي
خبير اقتصادي ووزير مغربي سابق
ألم يكن من الأجدر أن نقتدي ببعض البلدان التي تدعي اللبرالية في فرض ضرائب إضافية على السلع الكمالية والأرباح الفاحشة مع إنشاء ضريبة على الثروات الكبرى؟
***
انطلق ماراطون إعداد الميزانية يوم الجمعة الماضي بعرض مشروع قانون المالية لسنة 2024 أمام مجلسي البرلمان. إنها لحظة مميزة في الحياة الديمقراطية، لأن مشروع المالية ليس مجرد أي قانون آخر. فمن خلال هذا النص نقيس النوايا الحقيقية للحكومة، ونقيم سياستها وخياراتها في العديد من المجالات التي لها تأثير مباشر على حياة السكان.
وهذه فرصة للحكومة لتظهر للمواطنين صدق التزاماتها التي قطعتها على نفسها في إطار برنامجها الذي صوتت عليه الأغلبية البرلمانية. كما أنها فرصة للمعارضة للكشف عن أوجه القصور المحتملة لدى السلطة التنفيذية، وخياراتها فيما يتعلق بتعبئة الموارد وتوظيفها القطاعي والمجالي. وإذا لزم الأمر، لطرح حلول بديلة. وفي هذا النقاش، يجب ألا يكون هناك خاسر ولا رابح. ففي نهاية المطاف، فإن البلد والديمقراطية هما اللذان سيخرجان كفائزين. وعلينا جميعا أن نتعلم التكيف مع هذه الممارسة الديمقراطية التي هي السبيل الوحيد لتعزيز انتمائنا للوطن واحترامنا لتنوع الآراء وتعددية الأفكار.
لا بد من التوضيح منذ البداية أن قانون المالية، على غرار جميع السياسات العمومية، لا يكون محايدا أبدا، على عكس الادعاءات التي يروج لها خطاب أخلاقي وغامض. عليك أن تكون ساذجا لتصدق ذلك.
لكن هذا لا يعني أن الحكومة موجودة فقط لخدمة فئات اجتماعية معينة ولا شيء غير ذلك، كما تشير التيارات العدمية والمتطرفون على اختلاف مشاربهم.
إن المصلحة الوطنية والحاجة إلى التنظيم الاجتماعي تتطلب تقديم التنازلات، حتى لو كان ذلك يعني في بعض الأحيان الأخذ من الأغنياء لإعطاء الفقراء. حتى أن هناك حالات يكون فيها من مصلحة الأغنياء أن نمنح المزيد للفقراء!
مع أخذ هذه الاعتبارات المنهجية بعين الاعتبار، من المناسب قراءة وثيقة قانون المالية 2024. هذه الوثيقة التي تحمل بصمة السياق الوطني والوضع الدولي، تم إعدادها على أساس عدد معين من الفرضيات التي قد يثبت أنها صحيحة أو التي قد يثبت أنها خاطئة ولا أساس لها من الصحة. فالمستقبل بحكم تعريفه غير مؤكد والتنبؤ هو فن تقليل درجة عدم اليقين. وهذه القاعدة صالحة لجميع الفرضيات المعتمدة.
يتتبع قانون المالية، الذي تشكل الميزانية العامة للدولة عنصرا رئيسيا فيه، لمدة سنة تطور النفقات المراد صرفها ويحدد الإيرادات اللازمة لتحقيقها. دعونا نرى، ولنقتصر على الموازنة العامة، كيف يظهر هذان العنصران في مشروع قانون المالية لسنة 2024؟
تتوزع مصاريف الميزانية العامة للدولة، البالغة 435,7 مليار درهم، بين التسيير (64%) والاستثمار (27%) والفوائد والعمولات على الدين (8,7%). هذه البنية لم تعرف تغييرا منذ عدة سنوات. ولا تزال نفقات التسيير، التي يتم إنفاق 57.8% منها على الموظفين، تمثل حصة الأسد. وبخصوص نفقات المعدات والمصاريف المختلفة، والتي تجاوزت 110 مليار درهم، فقد شهدت تطورا وفق منحنى تصاعدي مسجلة ارتفاعا بنسبة 9,7% خلال هذه السنة. وهو ما يتعارض مع الدعوات التي أطلقها رئيس الحكومة لترشيد الإنفاق المرتبط بتسيير الدولة. علاوة على ذلك، يسجل المبلغ المخصص للتحملات المشتركة انخفاضا بنسبة 10% مقارنة بسنة 2023. وبذلك، تتجه الحكومة ببطء ولكن بثبات نحو تفكيك نظام المقاصة واستبدالها بالاستهداف من خلال دفع المساعدات المباشرة للأشخاص المقيدين في السجل الاجتماعي الموحد، وفيما يتعلق بخدمة الدين (الفائدة بالإضافة إلى الاستهلاك)، فإنها تمثل مبلغا هاما، يبلغ 100,6 مليار درهم، مما يجعله يبتلع ما يعادل 80% من مداخيل الاقتراض.
أما الإيرادات العادية المقدرة بـ 311,3 مليار درهم، فتتكون أساسا من الضرائب غير المباشرة (41,22%) والضرائب المباشرة والضرائب المماثلة (37,6%). ويمثلون معًا ما يقرب من 80٪. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن وضع ميزانية البلاد لا يزال هشاً لثلاثة أسباب على الأقل: أولاً، لا تزال الإيرادات العادية غير قادرة على تغطية النفقات العادية. فالرصيد الحالي سلبي بـ 6,3 مليار درهم. وهو ما يعني بعبارة أخرى أن الادخار العمومي سلبي. ثم الضرائب غير المباشرة تفوق إلى حد كبير الضرائب المباشرة. ومن عيوب الضرائب غير المباشرة أنها غير منصفة وغير عادلة إذ يدفعها جميع المواطنين، سواء كانوا فقراء أو أغنياء. وبالتالي، فهي لا تتماشى والمادة 39 من الدستور التي تقول: “على الجميع أن يتحمل، كل على قدر استطاعته، التكاليف العمومية، التي للقانون وحده إحداثها وتوزيعها، وفق الإجراءات المنصوص عليها في هذا الدستور”. وأخيرا، وبعد فشلها في تحسين الإمكانيات المالية المتاحة لها (ما بين 9 و12% من الناتج الداخلي الإجمالي حسب تقديرات مصادر موثوقة)، تفضل الدولة اللجوء إلى الاقتراض المقدر بـ 123,4 مليار درهم لسنة 2024، منها 70 مليار درهم من مصدر خارجي، بزيادة قدرها 16.67% مقارنة بسنة 2023، وهو ما يهدد بتعريض استقلالنا للخطر، خاصة وأن عائدات الاقتراض هذه لا تستخدم للاستثمار.
وبطبيعة الحال، نسجل بارتياح عددا معينا من التدابير المدرجة في مشروع قانون المالية والتي هي في الأساس توجيهات ملكية: 15 مليار درهم لإعادة إعمار المناطق المتضررة من الزلزال. وزيادة كبيرة في ميزانيات الصحة والتعليم. ومساعدة الأسر ذات الدخل المنخفض من أجل الحصول على مساكنها، مع التذكير بأنه كان ينبغي تنفيذ هذا الإجراء في سنة 2023. وتخصيص مبلغ 35 مليار درهم لتعميم الحماية الاجتماعية منها 9,5 مليار درهم لصندوق “تضامن” و25 مليار درهم على شكل مساعدات مباشرة لحوالي 10 ملايين نسمة. بالإضافة إلى مواصلة تنفيذ المخطط الوطني للمياه بهدف ضمان أمن السكان في مياه الشرب والري…
ويتضمن مشروع قانون المالية عدداً معيناً من الإجراءات الجمركية والضريبية التي هي أقل ما يمكن قوله عنها أنها تدعونا للتساؤل. وبدون الخوض في التفاصيل، نعتقد أن الحكومة قد أخطأت الهدف فيما يتعلق بإصلاح الضريبة على القيمة المضافة. وكما تم تقديمه، فهو غير مقبول لأنه غير عادل بالأساس وينبع من رؤية ليبرالية جديدة مبتذلة لن تؤدي إلا إلى تفاقم إفقار الطبقة العاملة والطبقة الوسطى.
فبدلاً من فرض ضرائب على السلع والخدمات الحيوية للمواطنين مثل المياه والكهرباء ووسائل النقل والسيارات الاقتصادية، ألم يكن من الأجدر أن نقتدي ببعض البلدان التي تدعي اللبرالية في فرض ضرائب إضافية على السلع الكمالية والأرباح الفاحشة مع إنشاء ضريبة على الثروات الكبرى؟ سؤال للنقاش…
*ترجمه للعربية عبد العزيز بودرة
المقال خاص لصحيفة قريش– لندن
عذراً التعليقات مغلقة