الرموز و الإشارات التراثية في بلاد الرافدين

الرموز و الإشارات التراثية في بلاد الرافدين

آخر تحديث : الجمعة 13 أكتوبر 2023 - 2:29 مساءً
roundcube 1 - قريش

 د. توفيق رفيق التونجي

اللغة التراثية شكل من أشكال التواصل ، التخاطب والحياة المشتركة بين بني البشر وتؤلف مجتمعة تصورهم نحو العالم. تتألف اللغة التراثية بمجمل مفرداتها من رموز ، إيماءات ، إشارات ، الوشم والصور ، ألوان  ،العلامات التجارية والشعارات وحتى الروائح وأمور كثيرة اخرى تكون بمجملها أسلوب حياة وارثا ثقافيا للشعوب. لغة لا تشبه اللغات الوطنية و القومية المنطوقة والمدونة التي يتحدث بها عادة شعوب الدنيا وتكتب بها آدابها وعلومها. تلك الرموز مجتمعة تكون لغة رمزية متكاملة انها لغة الجسد والحواس. اللغة الرمزية وأدواتها تعتبر لغة متكاملة تراكمية ديناميكية متغيرة تاريخية رمزية المحتوى والمفهوم والأداء يفهما المخاطب والمتلقي دون اي صعوبة. اللغة كذلك ذو ابعادا عالمية احيانا كما عليها اللغة الانكليزية والاسبانية. شعب العراق بجميع قومياته وعقائده الدينية ومقارنتها بعادات و الرموز المستخدمة عند الشعوب الأخرى للوصول الى فهم عام لسلوك و طباع الناس خاصة في الشرق وبالتركيز على الموروث الثقافي لشعوب بلاد الرافدين. . العراق مصطلح جغرافي غير قومي ولا يدل قط على قومية واحدة دون غيرها وتحول مع نهايات الحرب العالمية الى مصطلح جغرافي تعدي التركيب القومي ومع اعلان الدولة العراقية 1922 كيان سياسي. أسس على ثراها العديد من الدول وتحدث شعبه بالعديد من اللغات منذ فجر التاريخ الى يومنا هذا.

تطورت اللغة التراثية مع تطور الحضارة الإنسانية وتشمل فيما تشمل جملة امور عديدة تتعلق بالطقوس العبادات الدينية ، بأعراف والعادات والتقاليد للشعوب وأسلوب ونمط حياتهم و فنونهم ، ملابسهم ، اكسيسواراتهم حتى تشمل تراثهم القديم والجديد وبالطبع عقائدهم ومناسكهم فهي في مجموعها تكون شخصيتهم التراثية يحملون تلك الهوية أينما حلوا ويورثونها لأبنائهم و أحفادهم جيل بعد جيل . تلك المفاهيم تنعكس على أسلوب حياتهم و تفكيرهم الى مرتبة انها تتحول الى صورة نمطية عامة مقبولة ومفهومة وجبرية الاستيعاب للشعوب الأخرى. مادة الكتاب ليست تاريخية ولا هي بلغوية اي لا يناقش المعنى المجازي للكلمة ووجود رموز ثقافية مختلفة في استخدام الكلمة المنطوقة بين ثقافات العالم ومثال ذلك حين نقول لأحدهم بأنه “أسد مغوار” فأننا لا نعني الأسد الحيوان بل نعني بأنه شجاع. 

هنا يجب ان اعطي مثالا بسيطا ،اذ حين نريد ان نعطي إشارة ايجابية بمعنى القبول مثلا نحرك رأسنا بصورة معينة أسفل واعلى هذا في الشرق في الأقل، ولكن نفس الحركة هي دليل الرفض و النفي عند اليونانين. بينما نرى في العراق ان الشخص يرفع رأسه الى الأعلى ويخرج صوتا ” ﭼك” دالا على النفي “لا”. يجدر الاشارة ها هنا بان للنساء إشارات تفاهم مخالفة للرجال واذا ادى الرجل تلك الحركة لسخر منه الاخرون من الرجال. تستخدم الإشارات مع اخراج اصوات  احيانا او اداء حركات يد او عين او ايماءات في الوجه وهي في واقع الامر لغة مكملة للغات الوطنية للأمم والشعوب. اللغة التراثية ترسخ في سلوكيات البشر وحتى في طبائعه فأصبحت جزء من شخصيته التراثية واسلوبا للحياة. البعض منها مكتسبة بتاثير الافكار السياسية، الاجتماعية، العقائدية الدينية وحتى البيئية للانسان. 

البيئة تشمل كذلك مكان وجود الانسان كالدولة والمدينة والقرية والحي ووصولا الى مكان العمل اي البيئة التراثية للمهن والصنائع. اللغة التراثية تعتبر 66% من لغة التخاطب بين بني البشر. التواصل بين البشر دون استخدام الكلام اللفظي عبر ارسال خطاب للمخاطب يفهمه عبر الإشارة او حتى اللمس والرؤية ولغة الجسد و تعابير الوجه وهيئة وشكل الجسم وأعضائها. وقد أضاف التقدم الهائل في عالم المعلوماتية العديد من الاشارات التي تستخدم اليوم في برامج التواصل الاجتماعي كما في ( الفيس بوك).

بلاد الرافدين ،أي العراق الحديث ، غني بتجارب شعوبها وأقوامها وثقافاتها وتراثها ذي الخاصية التراكمية . ارض الرافدين كانت مهبطا لنشوء الحضارات فالتقى على ترابها اقوام وشعوب منهم من حارب وغزا وهدم ومنهم من علا وبنى لقرب العراق  . كركوك مدينة تعتبر عراقا مصغرا في تركيبتها السكانية القومية ، التراثية والعقائدية. لكن تلك اللغة التراثية رغم رمزيتها و رغم خصوصيتها العراقية تبقى ذا خاصية شمولية عالمية يتعرف عليها شعوب الدنيا كافة ، وتلك صفة عالمية يمكن مشاهدتها  والتفاهم عن طريقها بين ثقافات جميع شعوب العالم. لا توجد هناك اي خارطة ثقافية متكاملة عن الاثنيات والعقائد في بلاد الرافدين. مدينة كركوك تشمل في تركيبتها التراثية نموذجا نادرا لتعايش معظم تلك الثقافات حتى نهايات الحرب العالمية الاولى واحتلال وانتداب العراق من قبل بريطانيا بعد انتصار جيوش الحلفاء وتقسيم تركة الدولة العثمانية. وجل التغيرات بدا مع انتشار الافكار القومية بين قومياتها وتأسيس الأحزاب والمنظمات عى اسس قومية مع نهايات الحرب العالمية الثانية.

 تلك المجموعة الكبيرة من المفردات والرموز والإشارات والإيماءات الغير مدونه تنعكس على اسلوب حياة الناس وعلى طريقة تعاملهم مع الاخرين وما يعرف بعلوم التواصل والتفاهم عبر الثقافات المتباينة. نحن نعيش في عالم ملئها الرموز فكل شئ تقريبا اصبح اداة للتواصل اليوم مع تقدم عالم المرئيات والقنوات الفضائية والانترنت والبرامج و التطبيقات الملحقة بها. نحن نتواصل عن طريق تلك الرموز والصور والألوان والأصوات وحتى الروائح وابراج الحظ.

عالم اليوم اصبح فيه اللغة التراثية ذات طابع عالمي بعد ان كان محليا خلال دهور خلت. قد لا يحتاج المرء من يحدثه وهو يتمشى في احدى ألعواصم. كل ما عليه ان يفك رموز الاشارات والصور ويفهم لغة عالم الإعلانات التجارية الى درجة انه اذا رأى علامة “صح” فهم منها انها تعني ماركة تجارية للأحذية مثلا او ربما حرف ميم بالاتينية فيفهم منها انه مطعم اغذية خفيفة.  بينما نرى ان للألوان ايضا مفهوم عام يفهمه الجميع فنرى ان اللون الاحمر احدى علامات الخطر والحذر بينما الازرق علامة الممكن والأخضر كذلك في عالم المرور والعربات. هذا العالم المعقد يحير عقول البشر ويطلب منا ان نفهم تلك الرموز دون الحاجة الى دليل او حتى مترجم اينما ذهبنا في المعمورة.

السياحة و السفر في عالم الرموز و الإشارات التراثية التي تكون بمجموعها لغة تراثية عالمية موحدة لكافة البشر مع وجود خصائص محلية  للموروث الثقافي لشعوب بلاد الرافدين.  ناهيك عن كل ذلك نرى ان عالم الرموز مستخدمة اليوم في الكتابة الانترنتية لغة تخاطبيه عالمية جديدة سهلة الاستخدام والتفاهم والتواصل. هناك شعوب تستخدم إشارات اليد وتعاير الوجه والحركات عند الحديث وهناك شعوب اخرى قلما نراهم يستخدمون الايدي عند الحديث والشعب العراقي من الشعوب التي تستخدم الإشارات وحركات الوجه والأيدي عند الحديث وتلك مكملة و مصاحبة للكلام المنطوق.

السباب والشتائم كإشارة لتحقير والنضرة الدونية للخصم كاستخدام نعت الشخص بتشبيه بالحمار او الكلب لا يحتوي اي تحقير في الغرب وقد يبتسم الشخص الأوربي لهذا التشبيه دون ان يتأثر سلبيا بهذا الوصف. لان وببساطة في ثقافتهم الكلب من الحيوانات الداجنه المخلصة والصديقة المحببة لدينا نحن البشر وخاصة في الغرب. اما في الشرق فنرى مدى تأثر الشخص حين وصفه بانه (حمار ) في الإشارة الى غبائه. كما ترى عملية الصق في الوجوه غير معروفه في الثقافات العربية الا اني رايتها منتشرة عند الغجر في اوربا.

مفردات اللغة التراثية لا تشبه في قواعدها ما وضعه الخليل بن احمد الفراهيدي وشيخ النحاة سيبويه وإمامها نفطويه للغة العربية فهي لغة ذو خاصية رمزية تعبيرية خالية تماما من المفردات أي الكلمات ومليئة بالإشارات والرموز والأصوات التي يمكن فك طلاسمها فقط اذا كان المرء ملما بثقافة تلك الامة ويعرف ماضيها وتاريخ تطورها من ناحية ومن ناحية اخرى عاش بين ابنائها وحلم احلامهم ونادى بآمالهم. سأعرج كذلك الى موضوع السباب والهجوا والنكات والطرائف من باب ايضاح وجود فوارق ثقافية في استخدامها بين الشعوب. فمثلا اذا قلنا لأحدهم ابن الكلب لاعتبره اهانة في الشرق ولكن لا تعتبر ذلك بالضرورة اهانة في الغرب.

 ان الموضوع حي وديناميكي في تغير دائم يمكن الإضافة اليه في أي زمان ومكان ،وربما حذف القديم او توثيقها و حفظها لذا سابقي الموضوع مفتوحا للتطوير بمساعدة القارئ الكريم باستخدام وسائل التواصل المتاحة على الشبكة العنكبوتية المعروفة تحت مسمى الانترنت. تجدر الإشارة الى وجود لغة خاصة بالعميان ولغة الكم والصم و هي لغة اشارات او نقاط بارزة متفقة عليها بين كافة شعوب الدنيا وهي غير منطوقة ولا تكتب بل ترسم بإشارات اصابع اليد ويتم اليوم ترجمة الخطب والبرامج عن طريق لغة الاشارات تلك. بينما نرى العميان يفهمون الكتابة بالنقاط. هذه اللغات لا تدخل نطاق بحثنا هذا. كما لا تندرج موضوع المسرح الصامت البانوراما في هذا المجال وقد ابتدع الممثلين في هذا الفن اي ابداع ولا يمكن نسيان الممثل البريطاني شارلي شابلن لما له من ابداع في مجال التمثيل الصامت مع ممثلين  اخرين.

 اللغة التراثية الرمزية لغة حية ديناميكية تتطور دوما ويؤتى بالجديد ليضاف اليها كاللغات الحية المتداولة التي تجري عليها تغيرات وحذف وتجديد يلائم الزمان والمكان. اللغة التراثية  رمزية يمكن ايضاحه في المثال التالي:

 دق الباب الخارجي الكبير للبيت

فعرفت صاحبة الدار من صوت دق الباب

ان من يدق الباب سيدة او طفل

هذه اللغة غريبة على الانسان الغربي ولكن الشرقي يفهم بان في ذلك تطبيق للسنة النبوية الشريفة في قواعد وآداب الدخول الى بيوت الناس من ابوابها وإرسال اشارة الى ربة البيت بان القادم والزائر هي سيدة او طفل وربما رجل غريب. الكيفية تختلف من دولة وثقافة الى اخرى نرى ان في البيوت العراقية القديمة كان هناك مطرقتان في الباب أحداها صغيرة لدق النساء والأطفال والأخرى كبيرة للرجال. بذلك يفهم اهل الدار قبل فتحهم الباب ان القادم ذكر ام انثى.

حكاية اخرى تناقلها القوم مفادها ان احد المدرسين الحضريين تم تعينه في احدى قرى  اهوار الجنوب فقام شيخ القبيلة على عادته في الضيافة بدعوته الى الغذاء مع علية القوم. بدا شيخ القرية بالأكل وعلق بعض الرز على لحيته فأراد الحضري ان ينبه الشيخ فقال:

ان هناك بعض الأوساخ قد علقت على لحيتك.

فقام الشيخ هائجا فزعا من مكانه وبسرعة تاركا الصريفة والقوم. بعد لحظات سمع هدير أطلاقة نار….. عاد الشيخ الى القوم وعلامات الرضا على وجهه وجلس مرة اخرى الى المائدة مستمرا في غذائه ومر بيده الى لحيته قائلا:

– ان كانت هناك وسخ عالق على ذقننا فأننا بإذن الله ازلناه. ( انه قتل ابنته الوحيدة ضانا بان المعلم قد قصد ان شرفه أصيب بخدش).

ان للغة الإشارات أهمية كبيرة في الحروب وخاصة فيما يخص تبادل الرسائل والإشارات بين الجنود وكانت الأعلام قد استخدمت والنيران والدخان وأصوات الأبواق وطلقات الإنذار كإشارات حربية وحتى بعض اللهجات النادرة. لهذا نرى بان ذوي الأحرف والاختصاص والصناعات و المهن الاخرى يستخدمون إشارات خاصة يتفاهمون بها فيما بينهم وقد يصعب على الآخرين تفسيرها او فك رموزها. 

لقد شارك التطور العلمي واكتشاف التلفون والتلفزيون والكومبيوتر ووسائل الاتصال والذكاء الصناعي   الى ظهور عادات جديدة بين الناس فيما يخص التواصل الاجتماعي . حتى ان وسائل الاتصالات الاجتماعية تطورت الى درجات قياسية بحيث لا يمكن الانسان الحديث العيش دون تلفون خلوي نقال وحتى متطور الى درجة الكومبيوتر النقال او حتى تطبيق على الانترنت. لا بد من الإشارة ها هنا الى التخاطب عبر الرسائل النصية المسماة (اس ام اس) تطور كبير في عالم استخدام الإشارات للدلالة التراثية على الأحاسيس ونشر المعلومة. هذا التطور مستمر ولا حدود مرئية له ولا نعرف ما سوف تكون عليه بعد فقط اعوام قليلة. ناهيك ان التطورات العلمية الكبيرة لا نعرف ما تحمل للإنسانية بعد دهر من الزمان. من يدري من يقرأ كلماتي هذا بعد الف عام سيضحك بصوت عالي بحيث يسمعه العالم بأسرة. 

الي يعيش يشوف طبعا. 

هذه المادة جزء من مقدمة لمخطوطة كتاب للمؤلف تحت الاعداد.

السويد

كلمات دليلية
رابط مختصر

عذراً التعليقات مغلقة

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com