د. عماد الدين الجبوري
نشرت جريدة الثورة في عددها 31 بتاريخ 26 تشرين الأول 2023 مقالة الدكتور محمد طاقة الموسومة “التناقضات أساس التطور (فلسطين عربية)”. ولقد استلهم فكرتها، بدراية أو بغير دراية، من فلسفة جورج هيجل (1771-1831)، في نظرته إلى “وحدة انسجام التناقضات”. وبحسب قول هيجل، أن “وحدة التناقض تحوي الحقيقة، لأنها مشروطة في شكل الوجود اللاصوري”. (علم المنطق، ج 2، ص 103، طبعة إنكليزية). فالوصول إلى الحقيقة يتطلب التسليم باتحاد الأضداد وانسجامها في آن، إذ كل إثبات يتضمن بالوقت نفسه نفيًا، وكذلك كل نفي يتضمن إثباتًا، وهكذا. فكل شيء يكون له وجود وكذلك لا وجود، فلا حقيقة لهذا الوضع إلا لمجموعة الأجزاء التي تتوحد في شكلٍ كلي، كما يتوجب لكل جزء أن يتصل بالكل، حتى نصل إلى المطلق (الله)، الذي هو وحدة تناقض منسجمة. وعلى هذا الأساس يرى هيجل، أن الوجود والعدم هما وحدة متكافئة، إذ أن “البداية ليست عدمًا مجردًا، بل أن العدم يكون شيء ما للتكوين، ولذلك يحتوي الوجود على بداية حاضرة. وعليه، فإنَّ البداية تحتوي على كلاهما الوجود والعدم، وهما وحدة الوجود والعدم، أو هما: لا-وجود الذي هو وجود، والوجود الذي هو لا-وجود أيضًا”. (المصدر إياه، ج 1، ص 85).
ولقد تأثر كارل ماركس (1818-1883) بنظرية هيجل، بعد أن نقلها من المثاليَّة إلى الماديَّة، لتلاءم فكره الرافض لوجود الماورائيات أصلًا، والمهتم بالصراع الطبقي وماديات التطورات الحياتية الطبيعية والاجتماعية والإنتاجية… إلخ.
وتأتي سردية النص عند الدكتور طاقة، بأن “كل شيء هو وحدة متناقضات”، وأن “التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج”، إنّ هي إلا ترديد لأقوال هيجل وماركس من غير أن يشير إليهما، ومن المستبعد بأنه غير مُطلع على أفكارهما، لتأتي كلماته نوع ما مستنسخة من فلسفتيهما. كما لا أرى هناك أي ربط لمفهوم التناقض والتطور “بالصراع بين الأمة العربية ومشروعها القومي العربي (الذي يعتبر قضية فلسطين هي قضيته المركزية) مع الكيان الصهيوني المحتل لأرض فلسطين”، لكي ينتهي “هذا الصراع” بزوال أحد طرفي الصراع. فالموضوع هنا، لا يخص تناقضًا ضمن وحدة كلية، ولا يمكن أن نصوغها بهذا الشكل الذهني، إذا لا يوجد ما يجمع بين كيان صهيوني محتل، وبين شعب أُحتلت أرضه. وبذلك، فإنَّ الصراع الناتج فيما بينهما، لا شأن فيه للتناقض أو عملية التطور، لأن المقارنة تكون بين طرفين يشتركان في جنس واحد، ولا توجد أدنى شراكة بين عدو صهيوني غاشم مغتصب للأرض، وبين شعب جزء من أمة تجابه العدو الدخيل المحتل.
ولذلك، فإنَّ الصراع المستمر منذ العام 1948 وللآن، يخص طرفان داخلي وخارجي، الأول: فلسطيني عربي يتصل اتصالًا صميميًا بالوجود المكاني والحياتي والتاريخي، والآخر: صهيوني احتلالي مدعوم من الغرب الاستعماري، فلا صلة لهذا الصراع بمفهوم التناقض ومفرداته الفكرية تجاه الحياة والمجتمع والإنتاج وغيرها، بل يتصل بالإيمان والإرادة في التصدي ومجابهة دولة الاحتلال الصهيوني. ومن هنا، فإنَّ “الشجاعة التي باغت المقاومون الأبطال العدو الصهيوني” في العملية التي أسموها “طوفان الأقصى” هي نتاج ذلك الإيمان والإرادة، وما تحويه من عقيدة وعزيمة وتضحية، وليس نتاج “إطار التناقضات الثانوية القائمة في هذا الصراع”.
وعن كلام الدكتور طاقة، بأنه “يتوجب علينا مراقبة هذه التناقضات وحيثياتها وتفاصيلها وكيفية التحرك لمعالجتها”. مرة أخرى، نقول لا يوجد جنس مشترك بين نقيضين لكي نراقب ونتابع تفاصيل متناقضة تجاه بعضهما البعض. وفي هذا الصدد، فإنَّ إستخدام مفهوم التناقض غير صائب، ولا يقودنا إلى استنتاج يفي بالغرض، لأننا تجاه صراع واقع بسبب المحتل، ويوجب على المقاومة الفلسطينية مراقبة هذا العدو المحتل، وتطوير قدراتها القتالية والتسليحية في مجابهته. وهذا ما حققته عملية “طوفان الأقصى” وفق هذا السياق فقط، وليس وفق “إطار التناقضات”، وما أشار إليه طاقة، بأن لكل منها تطورها الخاص بها، بالرغم من وحدتها. خاصة أن التعبير الأخير: “بالرغم من وحدتها، إلا أنها في حالة متناقضة مع بعضها، وعلى أساسها تحدث عملية التطور في المجتمع ككل”. فإنَّ الدكتور طاقة يكرر الخلل عند هيجل في “وحدة التناقضات”، التي نقدها عليه بعض الفلاسفة الغربيين، إذ لو طبقنا نظريته على العالم، لأصبحت حركات الكائنات بهلوانية في سيرك تهريجي.
ومن الصراع مع العدو الصهيوني إلى “معرفة ما يدور من حولنا في العالم، والصراع الحاصل بين أميركا ومحورها الصين”، وما يتصل في تشكيل نظام دولي جديد. فلا أتصور بأن له ربط بمبدأ التناقض كنتاج واقعي تطوري، بل بمبدأ سياسي يقوم على المصالح والمنافسات والتقلبات والتكتلات… إلخ، وكل ذلك التصارع نتاج حركة التاريخ نفسه، والنظر إليه من مفهوم تناقضي لا يعطينا الفكرة الصحيحة عنه، وإنّما من خلال الواقعات والأحداث والمستجدات الناتجة من الصراعات البشرية نفسها وعبر التاريخ. فالإنسان مصدر التناقضات، وهذه التناقضات البشرية هي فردية المنبع، وبذلك لا يجوز تعميمها على الحياة والمجتمع والتطور، وتناول طاقة لها، هو يعيد علينا فكرة هيجل البالية، سواء بقصد أو من دون قصد.
أمّا دعوة الدكتور طاقة للشعب العربي من المحيط إلى الخليج، أن يدركوا ما يجري في قطاع غزة، بأنه موضوع أبعد من غزة نفسها، وخطورة فرض التطبيع مع العدو الصهيوني، وصولًا إلى الماسونية العالمية التي تتحكم في هذا العالم، وتستهدف العروبة والإسلام. فكل أصيل من العرب والمسلمين يتفق معه، ولكن ليس “نحن في تناقض” مع العدو الصهيوني، فلا شأن لمفهوم التناقض هنا، إذ لا يجمعنا بالصهاينة شيء تناقضي قط، ولن يكون صراعنا معهم نتيجة تناقضات أبدً
عذراً التعليقات مغلقة