عبد الرزاق القاروني*
المغرب
أنس الملحوني، مبدع شاب متعدد الجوانب، جمع بين الموسيقى والإعلام والتنشيط والعمل الجمعوي والبحث العلمي، وهذا ليس بغريب عنه. فهو ابن المربي والباحث عبد الرحمان الملحوني، وحفيد شيخ أشياخ مراكش، في مجال الملحون، الحاج محمد بن عمر الملحوني، الذي يعتبر من رجالات الوطنية بالمدينة الحمراء، إبان الحماية الفرنسية بالمغرب.
وقبل أن أعرف الفنان والإعلامي أنس الملحوني، شاءت الأقدار أن أتعرف على أبيه الأستاذ الفاضل الملحوني، في أواسط تسعينيات القرن الماضي، الذي كان، وقتئذ، يشغل منصب مدير الثانوية الإعدادية محمد الخامس برياض العروس، حيث رحب بي وأحسن وفادتي، فأجريت معه حوارا باللغة العربية، استثمرته في كتابة بورتريه عنه، نشر باللغة الفرنسية، ضمن سلسلة المقالات والبورتريهات الثقافية، التي كنت أعدها للصفحات الثقافية بجريدة “لوبينيون” (الرأي)، تحت عنوان “عبد الرحمان الملحوني، في قلب شعر الملحون”، بتاريخ 03 يناير 1997.
مسار متعدد
الملحوني مبدع متعدد المواهب والقدرات، يعزف على أكثر من وتر، فهو موسيقي وإعلامي وفاعل جمعوي وباحث ومنشط، اجتمع فيه ما تفرق في غيره، له حضور لافت في أكثر من واجهة، يزاوج في توليفة بديعة بين ما هو موسيقي وتربوي، مكسرا الحدود بين عدة حقول وميادين معرفية وفنية، وهو بذلك، ينطبق عليه توصيف “الإنسان المتعدد الأبعاد”، حسب تعبير رجل الاقتصاد الفرنسي سيرج- كريستوف كولم، وليس إنسانا أحادي البعد، كما ذهب إلى ذلك الفيلسوف والمفكر الأمريكي الألماني هربرت ماركوز.
إن الملحوني من طينة فئة خاصة من المبدعين هي، الآن، في طور الانقراض، تتسم برحابة الأفق، ورصانة وانسيابية الأداء، وتنوع وغنى الاهتمامات، والتي أعطت الشيء الكثير للفن والثقافة المغربيين، من حيث تميز تقاطعات وروافد تجربتها.
تجربة متفردة
يتوفر الملحوني على خامة صوتية متميزة، وتجربة إعلامية متفردة، خصوصا في المجال الإذاعي، الذي اشتغل فيه، منذ ما يزيد عن عقدين من الزمن، على ما يناهز 39 برنامجا إذاعيا حول مواضيع مختلفة ومتنوعة، من أبرزها: الثقافة الشعبية والإنشاد الديني، والموسيقى والتصوف والزوايا، والأعلام والشخصيات الفنية والثقافية، والروائع الموسيقية والغنائية العالمية، إضافة إلى الحكايات الفنية والإبداعية.
ومن هنا، يمكن القول إن الفنان والإذاعي الملحوني قد أنجز رصيدا وثائقيا سمعيا مهما، يعد معينا لا ينضب للمهتمين والدارسين للفن والثقافة الشعبية المغربية المعاصرة. كما يعتبر مرجعا لا محيد عنه، من أجل مقاربة الشخصيات والمواضيع والقضايا التي تطرق إليها.
هندسة البرنامج
برنامج “نبش في الذاكرة”، جنيريك فاطمة أقروط ومولاي عبد الكريم نيجام، هو برنامج إذاعي يومي، يبلغ الغلاف الزمني لكل حلقة منه عشر دقائق، ويتم بثه خلال شهر رمضان الأبرك، ما بين سنوات 2007 إلى حدود السنة الحالية، وهو برنامج يرصد سير ومسارات رموز وأيقونات الثقافة والفن، على صعيد الوطن، بلغة وسيطة، حسب تعبير الناقد الجرجاني، لغة سهلة وممتنعة في متناول جميع المستمعين أو كما قال الباحث الفرنسي في مجال علوم الإعلام والاتصال فيليب كايار لغة سهلة، وواقعية وحيوية.
وعلى مدار حلقات هذا البرنامج الحواري الاستيعادي، استضاف الملحوني 30 شخصية فنية وثقافية تعتبر من الوجوه البارزة في المشهد الثقافي والفني المغربي المعاصر، نذكر من بينهم: عبد الجبار لوزير، عبد الله عصامي، فتح الله المغاري، محمد الدرهم، العربي الكوكبي، سعيد الشرايبي، عبد الرحمان الملحوني، عبد الرفيع جواهري، مولاي الطاهر الأصبهاني، أحمد متفكر، أحمد عواطف، عتيقة عمار، كريمة الصقلي، وإسماعيل زويريق…
وقد خصص الملحوني لكل ضيف من ضيوفه في هذا البرنامج ما بين أربع حلقات وخمسة عشرة حلقة، حسب غنى وتنوع تجربة الضيف. وكما يقال “المناسبة شرط”، ولكون هذا البرنامج يبث خلال الشهر الفضيل، فإنه برنامج خفيف الظل، يمتع ويفيد، ولا يثقل مسامع الصائم. كما أنه يحسن اختيار الضيوف، وطرح التساؤلات والاستفسارات، ودمج الفواصل الموسيقية والغنائية، ما يجعله برنامجا ناجحا، لكن يحتاج، رغم ذلك، إلى الانفتاح أكثر على التجارب الفنية والثقافية، التي تمتح من معين الحقلين الديني والروحي، حتى يبقى البرنامج في انسجام تام مع متطلبات ورغبات المستمعين في الشهر الأبرك.
حفريات الماضي والحاضر
برنامج “نبش في الذاكرة” هو سبر لأغوار الذاكرة والحاضر، نبش في ذاكرة الضيوف، من أجل استحضار ذكرياتهم الشجية عن مجموعة من الأحداث والقضايا غير المعروفة أو التي يكتنفها الغموض لدى المستمعين، وهو، أيضا، حفريات في الحاضر، عبر استضافة شخصيات متميزة من الزمن المغربي الحديث، التي بصمت الساحة الفنية والثقافية بميسم خاص. وكأني بالملحوني، من خلال هذا البرنامج، ينشد على لسان شاعرة العاصمة الإسماعيلية، لطيفة السليماني الغراس في قصيدة “نبش في الذاكرة” قائلا:”وأعود للذكريات أنبشها، وبالذكر يتوقف الزمان”.
إلى ذلك، إن هذا البرنامج هو نبش في الذات والآخر، نبش في الذات، من خلال تساؤلات وتمثلات المضيف/الإذاعي حول الضيف/المبدع المثقف بالمفهوم الذي أعطاه السياسي الفرنسي إدوارد هيريو للثقافة، والتي عرفها بكونها هي ما يبقى عالقا بالذهن عندما يتم نسيان كل شيء، ونبش، أيضا، في الآخر، عبر الغوص في أعماق الضيف ووجدانه، لجعله يقوم بعملية التوليد، ليس بالمفهوم السقراطي، ولكن بمعنى آخر، معنى إعلامي يجعل الضيف يجد متعة في البوح ومعاندة النسيان، ويصبح متعاونا وشريكا غير بريء للمضيف، من أجل تحقيق الهدف من البرنامج، والذي يتجلى في تزويده بكل ما يحتاجه من معلومات، ومن تمة تتحقق وحدة البرنامج، ويحصل التماهي والانسجام التام بين الضيف والمضيف، ويتحقق النجاح الإذاعي والإعلامي المنشود.
وفي ستينيات القرن الماضي، قال الفيلسوف وعالم الاتصال الكندي مارشال ماكلوهان في كتابه “فهم وسائل الاتصال” إن “الوسيلة هي الرسالة”. وفي هذا الاتجاه، يمكن القول إن برنامج “نبش في الذاكرة” هو برنامج للقرب، قد استطاع التعريف بالعديد من الفنانين والمثقفين لدى الجمهور العريض، وجعل المنجزات النخبوية أو العسيرة على الفهم، تصبح في متناول الجميع، بطريقة شيقة ومبسطة.
===========
– ملحوظة: هذه القراءة التقديمية والتحليلية لبرنامج “نبش في الذاكرة” هي مساهمة، ضمن الكتاب الجماعي “في محراب الأثير”، من القطع المتوسط، في 352 صفحة، الصادر عن المطبعة والوراقة الوطنية بمراكش، مؤخرا. ويقارب هذا المصنف الاحتفائي لثلة من الباحثين والمبدعين المغاربة التجربة الإذاعية المتميزة للإعلامي أنس الملحوني، وقد تم توقيعه بمناسبة حفل تكريمه، مساء يوم الجمعة 20 أكتوبر 2023 بقاعة ندوات مدينة اللغات والثقافات بمقر كلية اللغة العربية بذات المدينة.
عذراً التعليقات مغلقة