قصة قصيرة
مختطفون
د. عزيز القاديلي
كنت عائدا من عملي مساء يوم ما، منهكا أحاول أن أجرجر نفسي كما لو أنني انفصلت عني، أدفعني خطوة خطوة باتجاه موقف الحافلة. الموقف لا علامة له سوى وقوف مجموعة من الناس رجال، نساء، تلميذات و تلاميذ يمارسون شغبهم المتواصل. بعد وقت ليس بالقصير بدت الحافلة قادمة و هي تتهادى في طريق مليئة بالحفر و الأحجار مخلفة وراءها زوبعة من الغبار. حينما اقتربت بدت لي الحافلة فارغة و مع ذلك بدأ الجميع يتسابقون نحو الباب من أجل الصعود.
كم يحلو لي أن أتأمل هؤلاء الناس الذين أدمنوا التسابق فقط من أجل الصعود على الرغم من أن أغلب المقاعد تبدو فارغة و على الرغم من قلة عدد الركاب. كنت من بين آخر الصاعدين. أخذت مكاني في هدوء مقتصدا في ما تبقى لي من طاقة آخر هذا النهار.
أديت واجب التذكرة ثم انطلقت الحافلة تتمايل بنا و تتزعزع تحمل بداخلها كائنات متعبة مثقلة بالهموم و المشاغل وسط طرق مغبرة و نصف معبدة. كنت منكمشا بداخلي كما حلزونة تختفي داخل قوقعتها غير منتبه للضوضاء التي تنتشر بداخل الحافلة، لكن لحظة و عند انعطافة الطريق انتبهت خارجا من قوقعتي و أنا أسمع صراخا و شتائم و سبابا فاحشا و عدوانيا. توقفت الحافلة و قام السائق من مكانه كي يستطلع الأمر. و إذ فتح الباب الأمامي للحافلة صعد مجموعة من الشبان يحملون عصيا يهددون بها السائق.
لم أفهم ما يحدث، اعتقدت أنهم مجموعة من قطاع الطرق الذين يعترضون المارة من أجل سلبهم ما يمتلكون، لكن حينما رأيت أحدهم يصعد إلى الحافلة حاملا دراجة وقد أصيبت عجلتها الأمامية باعوجاج، و هم يشيرون إلى الدراجة المتهالكة و وجوههم العدوانية و ألسنتهم التي لا يخرج منها إلا الكلام النابي و الخادش للحياء، من كل هذا استنتجت أن السائق أصاب الدراجة بعطب و أن صاحبها و أصدقاؤه يساومون السائق ليجبروه على إصلاحها.
أصيب جميع الركاب بهستيريا الضحك خصوصا حينما تحركت الحافلة مغيرة اتجاهها المعهود أن سالكة طريق أخرى تلف بنا الأزقة الضيقة و الأحياء الهامشية ففهمت أن السائق يبحث عن مصلح للدراجات فلم أتوقف عن الضحك مثلي مثل جميع الركاب غير معترضين عن هذه التمثيلية العبثية التي وجدنا أنفسنا متفرجين سلبيين لها.
كان السائق حينما يعثر على مصلح للدراجات يوقف الحافلة ثم ينزل رفقة أولئك الشبان لكي يفاوض في ثمن إصلاح الدراجة، كنا نراه من خلف زجاج النوافذ يساوم و يناقش و العرق باد على وجهه الأسمر.
مررنا على أكثر من دكان و في الأخير و بعد أن بدأ صبر الجميع ينفذ : راكبين و أصحاب الدراجة اضطر السائق الاستجابة و الموافقة على دفع ثمن الإصلاح الذي أجبر عليه تحت التهديد.
كنا جميعا تحت رحمة جماعة من المراهقين المشاغبين الذين اختطفوا الحافلة و من فيها من أجل إصلاح دراجة. و ها هم الآن يطلقون سراحنا و سراح الحافلة التي أخذت تسترجع حريتها و تتذكر طريقها المعتاد، كان الظلام قد غيم على المكان و سرت الطمأنينة في أنفسنا و الطريق إلى منازلنا ما يزال بعيدا بعيدا…
خاص لصحيفة قريش-ملحق ثقافات واداب -لنذن
عذراً التعليقات مغلقة