د. عماد الدين الجبوري
كاتب وباحث- لندن
في الحرب الجارية للشهر الرابع على التوالي ما بين المقاومة الفلسطينية وقوات الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، انقسمت الفلسفة الغربية على نفسها تجاه سببية هذه الحرب، إذ فريق يضع الضمير الإنساني في ميزان العقل والأخلاق، وفريق آخر يقدم العقيدة السياسية لتبرير الإبادة البشرية للغزيين، والتدمير الماحق لمناطقهم السكنية ومؤسساتهم الخدمية والتعليمية والصحية… إلخ.
ويُعدّ مواقف كل من يورغن هابرماس، نيكول ديتلهوف، راينر فورست، وآخرين غيرهم، من المؤيدين للمجازر التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي ضد المدنيين في قطاع غزة، ولعل موقف هابرماس هو الأكثر بشاعةً وتناقضًا مع فكره الاجتماعي وفلسفته النقدية، وكونه أحد أقطاب مدرسة فرانكفورت التنويرية الجديدة، عندما يسوغ للكيان الصهيوني جرائمه البربرية، ويرفض تشبيه المذابح للمدنيين “بالإبادة الجماعية”. وإذا كان هابرماس تحت تأثير عبارة “لن تتكرر أبدًا”، التي تهيمن على نمطية السياسة الألمانية منذ محرقة النازيين لليهود في الحرب العالمية الثانية، لذا يرى، أنه يجب أن تلتزم ألمانيا بحماية الحياة اليهودية، وحق إسرائيل في الوجود، وما يرتكبه الجيش الإسرائيلي عقب هجمات 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، كان “مبررًا من حيث المبدأ”.
إنَّ المجموعة الآنفة الذكر، اشتركوا في بيان صادر عنهم في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، إلا أن مجموعة أخرى، ومن مدرسة فرانكفورت نفسها، أعادوا النظر في العبارة القائلة “لن تتكرر أبدًا”، جراء حرب إسرائيل في غزة، وجادلوا هابرماس على موقفه، الذي “لا يكترث للكرامة الإنسانية بشكلٍ كافٍ ليشمل الفلسطينيين في غزة، الذين يواجهون الموت والدمار”. كما أن موقفه “لا يمتد ليشمل المسلمين في ألمانيا، الذين يعانون من رهاب الإسلام المتزايد”. فمبدأ الكرامة الإنسانية يجب أن ينطبق على جميع الناس، وهذا يتطلب منا التعرف على معاناة جميع المتضررين من النزاع المسلح ومعالجتها.
ليس هذا فحسب، بل الذين جادلوا هابرماس والبيان المشترك، يرون بأنهم “قلقون من عدم وجود ذكر لدعم القانون الدولي، الذي يحظر أيضًا جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية مثل، العقاب الجماعي والاضطهاد وتدمير البنية التحتية المدنية بما في ذلك المدارس والمستشفيات وأماكن العبادة”. كما أنهم لا يعتقدون بأن المعايير القانونية للإبادة الجماعية قد تم الوفاء بها من خلال الوضع في غزة.
إنَّ هذه المجادلة الفرانكفورتية التي أمتدت إلى خارج ألمانيا أيضًا، فبالقدر التي تعكس فيها تفاوتًا واضحًا في الفلسفة الغربية، فإنها تمثل كذلك منعطفًا مهمًا في مجابهة عبارة “لن تتكرر أبدًا”. تلك العبارة التي استغلتها الصهيونية إيما استغلال سلبي في ابتزاز ألمانيا بصفة خاصةً، والغرب بصفة عامةً. لذلك، تجد بعض الفلاسفة الغربيين تجاوزوا عقدة هذا الحاجز النفسي، ووقفوا مع غزة والحق الفلسطيني في الوجود والحياة على أرضه، وأحد هؤلاء هو أستاذ الفلسفة في جامعة نورثستيرن الأميركية ماثيو نوح سميث، الذي دعا “الجمعية الفلسفية الأميركية” أن تصدر بيانًا تشجب الحرب في غزة، وتدعم وقف إطلاق النار، وتقديم الحلول الواجبة، وتدين تدمير إسرائيل إلى المؤسسات التعليمية في غزة من بينها الجامعات. وبحسب قول سميث، إنَّ “هذا هو الحد الأدنى الذي يجب أن نفعله كوننا جامعيين محترفين في الولايات المتحدة”.
ويشير سميث أيضًا، بأنه يجب على الفلاسفة الجامعيين الأميركيين التحدث علنًا لإدانة الهجوم الإسرائيلي على غزة، وفي أقل تقدير، يجب على الجمعية الفلسفية الأميركية (APA) أن تدين وحشية إسرائيل واستخدامها للعنف، الذي ما زال يهدد جميع أشكال التعليم والبحث المتبقية في غزة.
وبالرغم من تفاوت الفلسفة الغربية تجاه الحرب في غزة، لكن من الملاحظ جليًا أن كفة الميزان تميل إلى الفريق الذي يدين إسرائيل، ويؤكد ذلك العشرات من أساتذة الفلسفة في الجامعات الغربية، ومعهم أيضًا أساتذة فلسفة آخرين من أنحاء العالم، الذين أعربوا عن تضامنهم مع غزة، ودعوا إلى وقف العدوان المستمر على الغزيين، ومن بين هؤلاء الفلاسفة الغربيين، أشلي بوهريمر جامعة نوتردام، تيلر كارمان جامعة كولومبيا، فيليب كاين جامعة سانتا كلارا، وغيرهم الكثير. وقاطبتهم قالوا: “ندعو زملائنا الفلاسفة للانضمام إلينا تضامنًا مع فلسطين، والنضال ضد الفصل العنصري والاحتلال على وجه الخصوص. انضموا إلينا في دعم المقاطعة الجامعية والثقافية للمؤسسات الإسرائيلية”. وحثوا الجميع على التحدث بصراحة وبلا خوف، والعمل على النهوض بقضية التحرير والعدالة الفلسطينية للجميع.
وعلى الرغم من أن سلافوي جيجيك (1949) ضمن 200 فيلسوف تضامنوا مع الفضية الفلسطينية، لكنه يرى أن “الخط الفاصل الحقيقي في إسرائيل وفلسطين” يكون بين “الأصوليين” في كلّا الطرفين. وبما أنه يشجب المتشددين الفلسطينيين ولا يدين صراحة “الفصيل المتشدد” الآخر، فهو يقترب نوع ما من تناقض هابرماس، إذ أمّا أن يكتب بعقل فلسفي حريص على إظهار الحقيقة، أو سياسي يهمه تحقيق الهدف بأية وسيلة. وربما أراد جيجيك أن يكون ضمن الفريق الذي قال عنهم أرنولد توينبي، أنهم يعرفون الحقيقة، لكنهم لا يقرّون بها. وحتى لو افترضنا بأن جيجيك خضع للضغوط الصهيونية، ومسك العصا من الوسط، لا سيما قد تعرض لهجوم شرس واتهموه بمعاداة السامية، وذلك بسبب الخطاب الذي ألقاه في افتتاح معرض فرانكفورت للكتاب في 17 أكتوبر الماضي، وقال فيه: أن “الفلسطينيين يعاملون بصرامة كمشكلة، ولا تقدم لهم دولة إسرائيل أي أمل، مما يحدد بشكل إيجابي دورهم في الدولة التي يعيشونها”. فبالقدر الذي أنفق وقتًا بالدفاع عن نفسه، فمن المفروض أيضًا أن يدافع عن الحق ضد الباطل، وهذا هو الخط الحقيقي الفاصل بين الصهاينة المحتلين، وأصحاب الأرض الفلسطينيين، خاصةً أن جيجيك قد نقد الغزو الأميركي للعراق.
وعلى حذو جيجيك يأتي موقف إريك مايير، الذي يصف هجوم 7 أكتوبر بالإرهابي، وفي الوقت ذاته يقرّ بأن الدول الغربية “الأكثر تورطًا بشكلٍ مباشر في أزمة الشرق الأوسط”. ولهذا، وفق تصوره، تجد بعض الفلاسفة الغربيين مثل هابرماس وجيجيك وبنهابيب ينحازون إلى الجانب الإسرائيلي، ولكن فيهم أيضًا مَن ينحاز إلى الجانب الفلسطيني. ومن أجل بناء نظرة متوازنة، يرى مايير، يجب الاعتراف بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني كهيكل جدلي ثنائي القطب من العنف المتعارض تمامًا، إذ لا يوجد جانب واحد متميز بالضرورة كونه “عادل” و “جيد”، والآخر “شرير” و “خاطئ”، لأن ذلك يساهم في سوء الفهم المتبادل بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهو السبب الرئيس في الحرب.
ويذهب مايير في سرده، بأنه يمكن النظر إلى هذه الحرب على أنها مقدسة مدنسة بين الصهيونية اليهودية للدولة الإسرائيلية، حيث تظهر الصهيونية المسيحية واليهودية والأصولية الإسلامية كصورة مرآة افتراضية وانعكاسات مقلوبة وخلفية لبعضها البعض، التي أعلن فيها الجانبان عن هدفهما المتمثل في تحقيق القضاء على أعدائهما المفترضين، والمطالبة بالسيادة على أراضي إسرائيل وفلسطين المتنازع عليها “من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط”.
إنَّ ما يطرحه مايير لا يعدو عن نتاج العقلية الاستعمارية الغربية، التي تصنع واقعًا احتلاليًا ثم تجعله حقيقة راسخة، إذ مجرد التساوي ما بين المحتلين للأرض وبين الشعب الأصيل فيها، من منطلق الأمر الواقع، أو من أجل تحقيق السلام، فهو وضع لا يستقيم مع حركة التاريخ وحقائقه الساطعة، وإلا لاستمر الصليبيون في احتلال فلسطين، وكما انطوت فكرة “الأرض المقدسة”، فكذلك ستنطوي فكرة “أرض الميعاد”، وستبقى أرض فلسطين لشعبها المتجذر فيها عبر مراحل التاريخ.
كيفما كان الأمر، فإنَّ المحصلة الرئيسة لمجمل مواقف الفلاسفة الغربيين يكشف عن ثلاثة مؤشرات: أولها، يصب في صالح القضية الفلسطينية، وتشكّل الأغلبية. وثانيها، يميل لإسرائيل، لكنه يمثل الأقلية. أمّا ثالثها، فهي نظرة وسطية تحاول إلقاء اللوم على المتشددين في كلّا الجانبين. وعليه، يمكننا القول بأن النتيجة العامة هي أن العقول الجامعية الغربية لم تعدّ تقف مع الجانب الإسرائيلي. وهذا يعني، أن المستقبل يتجه أكثر نحو أصحاب الأرض الأصليين، وبداية فقدان التغطية لوجود كيان سياسي دخيل ومصطنع من الغرب ذاته.
د.عبد الجبار الكبيسي منذ 9 أشهر
مقال جميل يحمل في طياته تحليل للشخصية المعلولة المبنية على الكراهية والانتقام والحقد الدفين المتمكن من اعماق ما يخلج في نفوسهم المريضة .