نقد العولمة وصراع الذات: قراءة سيسيوثقافية في رواية “مُستنسَخَة” للكاتبة المغربية نعيمة القبيط
أحمد الحاج
كاتب وناقد من العراق
منذ نشأتها عن طريق دراسات الحرب والسلام أثناء الحرب العالمية الثانية وما بعدها، اتخذت العولمة لها قناعاً زائفاً وهو تحرير التجارة العالمية من القيود السلطوية، ولكنها في حقيقتها جاءت بكل ثقلها الاعلامي والرأسمالي لاستعباد الإنسان وتحريره من مشاعره وومصادرة أحاسيسه وآماله وتطلعاته، فهي تسعى من أجل تسليع كل شيء بما فيها الاجساد والاحاسيس والاهواء والقيم والمثل.
والرواية التي بين يدي بعنوان “مُستنسخة” الصادرة عن المطبعة والوراقة الوطنية عام 2019 تعد من روايات الخيال العلمي Science Fiction، وقد عومت الساردة المكان بينما اتخذت من الزمن الحديث – زمن العولمة – زمناً تدور فيه أحداث الحبكة القصصية، وبالاشارة للعنوان، “مستنسخة” نجده قد اتخذ من خيال علمي قائم على حقيقة علمية مفادها نجاح تجربة الاستنساخ البايلوجي (Cloning) للنعجة دولي بتاريخ 5 يوليو 1996 مما فتح أفاقاً جديدة أمام العلماء ـ بعد محاولات كبيرة وتجارب مضنية فشلت معظمها ـ في التحرك نحو الانسان ولكن الصعوبات كانت بالغة جداً بسبب رقي جسم الانسان وصعوبة استنساخ حمضه النووي فباءت جميع التجارب بالفشل، ولم تنجح إلا في خيال السينما وكتاب السرد.
وقد جاءت رواية نعيمة القبيط لتعالج مشكلتين في فضاء واحد، الاول تحقيق حلم العلماء والمختبرات البيلوجية في الاستنساخ البشري لدواعي طبية بحتة في توفير أعضاء الانسان المستنسخ كقطع غيار وربطتها بارهاصات العولمة، فالانسان المستنسخ مجرد من آدميته خدمة للمصنع الذي استنسخه، وثانياً جعلت من شخصية البطلة “أسماء” امرأة تتحدى فرضيات العولمة بل وتسقطها بعد أن تتغلب عليها باحاسيسها ومشاعرها واستلهام حضارتها وتاريخها ودينها وعاطفتها، لتفوز أخيراً بحياة جديدة بعد نجاتها من سطوة العولمة واصحاب المختبرات البايلوجية بمساعدة حبيبها “أحمد” الذي اشترى اعضائها كاملة من صاحب المختبر المتنفذ وأخذها بعيداً ليعيشان حياة هادئة بعيداً عن الصخب وضوضاء الحداثة.
فرضيات العولمة:
العولمة (Globalization) مصطلح حديث صاغه عالم الاجتماع الكندي واستاذ الاعلاميات في جامعة تورنتو مارشال ماك لوهان في نهاية الستينات في القرن العشرين في كتابه ” الحرب والسلام في القرية الكونية”، ويتكون المصطلح من مقطعين نحويين: الاول (Global) ويعني عالمي والثاني مورفيم ملحق (isation) يفيد التغيير من الخارج، أي عن طريق الفرض بالقوة، ولذلك ترجم إلى عولمة، بينما العالمية (Universalism) حيث (Universal) عالمي، بينما (ism) تشير الى التغيير بالاعتماد على المعايير الثقافية والعلمية، أي أن عملية التغيير تبدأ من الداخل. وأخطر منظري العولمة هم برنارد لويس، وصموئيل هنتنغتون في كتابه “صدام الحضارات واعادة تشكيل العالم”، وفوكوياما في كتابه “نهاية التاريخ والرجل الأخير.
وتتلخص العولمة في عشر أهداف رئيسية هي:
- تقليص دور الحكومات وتهميشها والغاء سيادة الدولة.
- تهميش دور الثقافات الأخرى أمام ثقافة العولمة والتي تتبنى الثقافة الأمريكية في الملابس وقصات الشعر والالعاب، والترويج للنموذج الامريكي في كل تفاصيل الحياة.
- تغليب القيم المادية على القيم الإنسانية وتسليع الانسان واستعباده.
- الترويج للعنف والارهاب والتشجيع على الجريمة والادمان على المخدرات والشذوذ الجنسي والتحرش بالاطفال (Pedophilia).
- التركيز على القطبية الأمريكية في السياسة وضرورة تبعية الحكومات لها.
- طمس هويات الشعوب وحضاراتها وتاريخها.
- التوسع في الاستخدامات التكنولوجية بهدف الاستهلاك والادمان على وسائل التواصل الاجتماعي ونشر التوحد والترويج لظاهرة الانتحار.
- تأكيد هيمنة مالكي رؤوس الأموال وأصحاب الشركات العابرة للقارات (Transitional Firms) واعطائهم الأولية في الحياة والعيش الرغيد باعتبارهم سادة، بينما العمال والمستهلكين هم العبيد.
- إضعاف القيم السماوية والغاء الأديان ونشر الالحاد.
- تمجيد الفردية والأنانية.
صراع الذات
عمدت الساردة نعيمة القبيط إلى ادارة صراع داخلي بين ذات البطلة “أسماء” احد طرفيه الانسان السوي (الأصل) والآخر المستنسخ عنه بفعل بايلوجي بعيد عن ارهاصات الانسانية، وقد عبرت عنه الساردة من خلال مونولوج افتراضي تقارن به هذا الصراع الانساني بين الاصل والمستنسخ: “نحن نشبهكم، بل نحن أنتم، لكن مغلفين كي لا يظهر ألمنا، فنحن أمل، هل صادفتم من قبل أملاً يائساً أو ابتسامة باكية؟…” (الرواية: ص21)
“كم صعب أن تكون نسخة والأصعب أن تجهل أصلك” (الرواية: ص15)، وهنا تبدي الشخصية أولى صراعاتها مع الحياة عندما لا تعلم عن أصلها شيئاً، وهي احدى فرضيات العولمة التي وردت في كتاب فوكوياما “نهاية التاريخ والرجل الأخير” والتي تسعى إلى تجريد الانسان من واقعه المعاش بما فيه أصله وعائلته وعشيرته بل وتلغي تاريخه، كما تجرده من مشاعره وديانته وتحوله إلى سلعة قابلة للبيع والتداول بين الشركات العابرة للقارات:
ثم يتجلى الصراع الانساني في أسمى معانيه في الايثار من أجل الآخر مع شخصية “حياة” صديقة البطلة المستنسخة هي الاخرى عندما تصف شخصيتها وكونها فخورة في التبرع بأعضائها من أجل بث الحياة في اناس آخرين: “… فخورة بكونها في خدمة الغير، سعيدة لأنها الحياة، اختارت لنفسها إسم عشتار (آلهة الحب والحرب والجمال والتضحية في الحضارة البابلية)” (الرواية: 36)
كما أن قوانين العولمة كما اسلفنا تشجع على الانانية والفردانية، لذلك تقول البطلة:
“من ضمن القوانين التي تسري علينا وحدنا، أننا لا يجب أن نحب أحداً أو تربطنا علاقة ولو عابرة بشخص ما، …”؛ “نحن لا ننتمي لأية ديانة، لا نعبد إلا أجسامنا…” (الرواية: ص17)، والسبب برأي العولمة هو أن اصحاب الشركات الكبرى قد توهموا انفسهم الاكبر من الخالق: “تخيل الصانع أنه أصبح خالقاً، محاولة لتجاوز الديانات محاربة لفكرة الله” (الرواية: ص18).
وهذه الفرضية وردت في كتاب صموئيل هنتغتون “صدام الحضارات واعادة تشكيل العالم” وهو أول منظر للعولمة عندما اعتبر الدين والحضارة والقومية هي وسائل صدام ونزاعات وحروب ويجب على العالم الجديد “أمريكا وتوابعها اليابان وبريطانيا…” السعي من أجل الغاء هذه الفكر واعادة بناء العالم وفق اسس وقواعد رأسمالية الحادية تتركز على الانسان وما ينتجه في يومه في سبيل خدمة أصحاب النفوذ والشركات العملاقة: “كل ما هو روحي لا يهمنا أو بالاحرى لا يهمهم فينا، كنت أعيش داخل صندوقي لا أرى إلّا ما يريدونني أن أرى ولا أفكر إلا كما يريدون…” (الرواية: ص19)
وتتسائل الساردة على لسان بطلتها عن حقيقة العبودية، هل هي للسادة المترفين بالمال والجاه أم للناس البسطاء الذين يدعونهم عبيداً والذين لا يملكون سوى مشاعرهم النبيلة: “كيف لهذين الشخصين في زمن الاستنساخ البشري أن يقدرا بعضهما إلى هذا الحد، في زمن لم تعد للأشخاص قيمة الكل يتاجر في الكل، … بل حتى من يسمون أنفسهم أصليين أصبحوا نسخاً بجودة أقل، فعلى الأقل نحن أسياد مشاعرنا، في المقابل مشاعرهم المستعبدة بالمال والسلطة المصطنعة أيضاً” (الرواية: 91).
ضد العولمة:
لذلك نجد البطلة هنا تصارع من أجل التشبث بكل القيم الانسانية النبيلة، وسعت إلى خلق عالم انساني موازي يقف بوجه عالم الاستعباد العلمي والثقافي للعولمة من خلال عدة وسائل هيأتها من قرارة نفسها، واكتشفتها من خلال بحوثها، كما توصلت اليها في تأملاتها في الانسان والحياة، كما توصل لها من قبل حي بن يقضان في جزيرته المنسية.
وهذه الوسائل هي:
1- اعادة الانسان إلى رومانسيته المفضلة وتقديس ما هو روحي:
“السادسة صباحاً، جاء الصبح يداعب رموشي، تغني لي الطيور أغنيتي المفضلة، تمد لي الشمس خيوطها لتلتقطني من تحت أجنحة الليل الحاني إلى دفئها. ما أجمل هذا الصباح!!… سأعد كوباً من القهوة،… بدأت أخرق القوانين” (الرواية: ص26) عملية تشبث بالحياة وخرق لقوانين العولمة.
2- التحرر من العبودية والغاء التبعية للغرب واحترام الذات الانسانية:
“لن أسمح لبشر آخر أن يجردني مني، هذا قراري…” (الرواية: 27-28)
“… لماذا لا نثور على هذا، إن العبيد في كل عصر ثاروا على من اعتبروا أنفسهم أسياداً، كم من عبد غدى سيداً عبر التاريخ، لماذا لا نصبح أسياداً، لا على أي كان فقط على ذواتنا.” (الرواية:40)
3- تفكيك البيئة السيسيوثقافية للعالم الجديد وهدم أمراض المدنية الحديثة ودحر أبطال الوهم والخرافة:
“… لن يستمتع الساديون بتسجيلات المعذبين المنتشرة في النيت المظلم أو ما اصطلح عليه (بالدارك ويب)، لن يتمكنوا من بيع الاطفال (للبيدوفيل) الراقد على جراح الثكالى والمرتوي من دماء فلذات أكبادهم، سترتاح الانسانية من إدمان المجهول، سيتوقف انتحار الأطفال بسبب بعض الالعاب الإليكترونية، سترتاح بعض الصحف الإليكترونية من تلفيق الروايات، بل سيختفي أبطال أنجبهم الوهم من رحم الرذيلة.” (الرواية:47)
4- اعتناق الاديان والتمسك بالعبادة ونفي الاشاعات المغرضة التي تروج لها عجلة الاعلام الغربي:
“… قرأت في سورة من القرآن أن الله إذا أراد لشيء أن يكون يقول له كن فيكون، قد يريد الله لي الحياة ودخول الاسلام، إني حقاً أصدق هذا الكتاب المقدس، إني أؤمن بوجود خالق لهذا الكون،…” (الرواية: ص75)، نعم لقد اكتشفت البطلة عن طريق بحثها في المسائل الفلسفية أن حياتها مرتبطة بالايمان بالله والقرآن هذا الكتاب المحفوظ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكي تنجوا من بيئة المختبرات البيلوجية العولمية عليها أن تنصهر في بيئة الاسلام، ذلك الدين الانساني القيم خاتم الاديان كلها وهو الدين العالمي الذي جاء به النبي محمد (صلى الله عليه وسلم): {وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين} (الانبياء: 107) فهو رحمة ورخاء للعالمين كما انه يحترم الانسان ويكرمه ويضعه في أعلى المراتب، ولن يثنيها عزمها هذا في الرهبة من الاسلام حسب ما يشيع الاعلام الغربي من ارتباطه بالارهاب وما نتج عنه من “حروب طائفية، فتن بين المذاهب، جماعات انتحارية،…” (الرواية: 76) ولكن البطلة كباحثة اكتشفت زيف هذه الادعاءات الباطلة، لذلك اعتنقت الاسلام.
5- تقديس الحب كفعل انساني ذو قيمة روحية ترتقي بمشاعر الانسان الى قيم عليا:
“… سأوقظ إنانا من أجل عشتار لا يليق بنا الانهزام،” (الرواية: 75) رمزية تبادل المشاعر والتضحية من أجل الآخر، والحب هنا حب ادراكي مبني على حسن الاختيار، وهو يخالف نظرية الحب في الفلسفة اليونانية التي تدعي بأن الحب لا يأتي إلا بسهم كيوبيد وكون الآخير أعمى فإن الحب أعمى أيضاً: “تذكر أغنية قديمة لعراقي كان يلقب بالقيصر، فقد علمه الحب أن يحزن، …، لكن أحمد لم يعمه الحب بل أضاء منطقة مظلمة باردة كانت منزوية في أحد غرف قلبه المتشعب، الحب أعمى لمن يسيء الاختيار،…” (الرواية: 79).
6- توظيف المال من أجل خدمة الانسانية واعتباره وسيلة لإسعاده لا غاية من أجل استعباده:
وقد تجلت هذه الحقيقة عندما عمد “أحمد” حبيب البطلة “أسماء” بشراء جسدها وهي حية بثمن باهض من صاحب المختبر البيلوجي الذي استنسخها عن الاصل: “طلبت منه أن أشتريه وأنت حية، لم يوافق لكني أعرفه جيداً أخذ المبلغ الذي يريد ليأمر بوهبك لي في آخر لحظة.” (الرواية: 102).
لقد اطلقت الساردة حربها الناعمة ضد ثقافة العولمة وأهدافها البغيضة وسعت جاهدة بقلمها إلى تفكيك هذا النسيج البغيض الذي يصادر الحريات ويقبع المشاعر ويلغي المقدسات، وقد تمكنت القبيط من توظيف مرجعياتها العلمية في دراسة علوم الحياة والفلسفة والثقافة في خلق عالم روحي جديد موازي لعالم الأعمال والتجارة ويتغلب عليه، باستلهام مشاعر الانسان واصراره وتضحيته ليخرج أخيراً مكللاً بالنصر، ومتحرراً من كل القيود المفروضة عليه من قبل أصحاب الشركات ورؤوس الاموال.
خاص لصحيفة قريش -ملحق ثقافات واداب -لندن
عذراً التعليقات مغلقة