” لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ ۚ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ “
سورة الأنعام (67)
د. توفيق رفيق التونچي
كل الحضارات بدأت في الشرق، وكانت حصة بلاد الرافدين هي الاكبر. معظم الحضارات الاخرى قامت بتقليد تلك الحضارات واكتشافاتها من ادوات الى الكتابة. المحاكاة أفضل طريقة للإبداع ، المحاكاة Simulación)) قارئي الكريم هي من أفضل الطرق للنجاح وتستعمل في التعليم التطبيقي وفي التجارب العلمية وطبعا في علم القياس اي قياس الحدث بما سبقه من حدث او قول شبيه وفي المحاماة تستخدمقرارات الحكم في القضايا كنموذج لقضايا المشابهة ويستند اليها. يقول البريطانيون “ان التقليد أفضل طريقة للإبداع”. طبعا هنا ليس التقليد بمعنى الاستعارة ان كان نصا، عملا ، بضاعة ما او اكتشاف ( كوبي) لان ذلك يدخل ضمن القرصنة و السرقة الفكرية. كان ولايزال التعليم محاكاة لما كان البشرية في كل الأدوار التاريخية تستخدمها كأسلوب للتعليم. اي تقليد الطالب للمدرس والتعلم عن طريق التجربة في محاكاة الأصل في جميع الصنائع.
نرى ان التجربة اليابانية جديرة بالدراسة حيث تمكنت وفي فترة قصيرة ما بعد الحرب العالمية الثانية من استخدام هذه الطريقة اي التقليدفي الصناعات بالوصول الى درجات عالية في التطور والتقدم. لا تزال الصناعة اليابانية تعتمد على التقليد ولكنها في نفس الوقت تعتبرمن الدول المتقدمة في عدد الاقتراحات التي يقدمها العاملون لتطوير المنتجات المصنعة في العالم. كل عامل يقدم سنويا العديد من المقترحات لتطوير العمل وتقوم لجنة خاصة بتقيم تلك الاقتراحات وتنفيذ الجيد منه مصانع (تويوتا) للسيارات نموذج جيد يمكن دراستها لتطوير الصناعة في معظم دول العالم.
اي نحن في الواقع نكرر ما فعله الأجداد بأفعالهم وأقوالهم وعاداتهم وتقاليدهم وحتى أعراف وشعائر جاءتنا من آلاف السنين. هذا ما نقوم به قولا، فعلا وعملا والأدهى نفكر مثلهم كذلك ونعلم الأجيال جيلا بعد جيل. ولا تزال النظريات الحسابية و الهندسية التي اعتمد عليهابناء الحضارات القديمة في الرافدين وفي مصر الفرعونية في البناء تطبق حتى يومنا هذا. الفرق بين أسلوب وشكل البناء او النحت ايالتصميم الذي يعتمد على إبداع الفنان المعماري او النحات وبيئته والمواد الأولية المتوفرة للبناء وتلك ما نشاهده اليوم من اختلاف فيالشكل بين بنيان المدن القديمة والحديثة والمدارس الفنية المتعددة في المعمار والرسم والنحت والبناء والخصوصية الثقافية والبيئية. النحات المصري لا يزال بإمكانه نحت المنحوتات على نفس الطريقة التي نحت بها قبل الألف السنين وقد شاهدت العديد من القطع النحتيةالحديثة فيما يسمى بالنحاتين الفطريين اي ممن لم يدرسوا فن النحت أكاديميا وهي تمثل في الواقع محاكاة للنحت القديم المتوارث. وهكذاينطبق على ابناء الحضارات الاخرى.
كنت قبل اكثر من ثلاثة عقود لاجئا انتظر في احدى معسكرات الصليب الأحمر في شمال السويد. اقول كنت اداوم في الجامعة الشعبية في المدينة القريبة من المعسكر استقل اليها الباص (الحافلة) يوميا في الخامسة صباحا مع صديقي ماجد حبيب ومع بعض الرفاق من اللاجئين ومن قوميات متعددة. دام انتظاري في هذا المعسكر قرابة السنتين. تعرفت على رسام لا زلت أراسله وكان يدرس الرسم علىطريقة فناني العصور الوسطى. تعلمت منه تلك الطريقة في الرسم من تحضير قماش اللوحة واستخدام الشمع في تقوية القماش الىتحضير الالوان ومزجها عن طريق استخدام البيض وامور اخرى في محاكاة الطريقة التي كان يستخدمونها فنانوا العصور الوسطى فياوربا في رسم الرسومات الدينية وما يسمى ب الإيقونة الدينية. اي اننا قلدنا أسلوب عمل وحاكينا فنان مات قبل نصف دهر كي نقوم برسم لوحة شبيهة بتلك التي رسمها وخطها أيادي ذلك الفنان. طبعا المدة الزمنية كانت طويلة واعتقد بان لوحتي لم تكتمل بعد حتى بعد مرور ثلاثين عاما على البدا برسمها. اللوحة تمثل ابنتي البكر شيرين ذات السنتين.
الأحداث التاريخية تامة اي لا رجعة فيها. لان الحدث يحمل صفة عصره من ناحية والزمن متغير كالمياه الجارية في الانهار في اللحظة التي تمر من امامنا لا تعود ثانية وان عادت ستعود بشكل اخر وبتفاصيل جديدة ،وهذا ما يحصل حين نقول بان حوادث التاريخ لا تعود وتتكرر اي ان التاريخ لا يكرر نفسه. لكن لا الحدث سيكون نفس الحدث القديم ولا الزمن عين الزمان وطبعا الأشخاص والقائمين بالحدث قد توفوا جميعا وزال مسبباتها. الحروب التي دامت عشرات السنين بين الإمبراطوريات وراح ضحيتها الملايين من البشر ودمرالمدن والقلاع وانهارت الحضارات زكان دوما التطرف والغلو أسباب انهيارها. سوف لا تعود كحدث مطابق تماما للحدث الاول بل تعودبتفاصيل جديدة ومدمرة اكثر وصولا الى فناء الارض. لان الأدوات المعرفية ازداد من ناحية السلاح المدمر تطور بشكل رهيب. لكننا نرى اليوم امم كانت اعداء وتقاتلت في حروب طويلة وقدمت التضحيات من كلا الجانبين لكنها اليوم توحدت ولا ذكر او اثر لذلك التاريخ السلبي المؤلم بينهم. النضوج التاريخي ياتي دوما مع الزمن وتغير المعطيات والظروف الموضوعية والأرضية المعرفية لذلك الزمن.
البشرية تتطور عن طريق نظرية الكم التراكمية ،ولكن كل ذلك مرتبط كذلك بعدم وجود افكار جامدة و مطلقة متطرفة توقف عجلة التطور محاولة جاهدة بالعودة بالقهقرى الى الوراء. المعلوم كذلك وجود حدود للتطور الا ان احد اهم خصائص المعرفة الإنسانيةهو رقيها و تطورها المستمر ولا يوجد اي حدود او تراجع الى الوراء للتطور التقني منها والاجتماعي. الا إننا أحيانا نكتشف بالمعارف الجديد بطلان نظرية ما فنجدد معارفنا على ضوء ذلك.
اليوم في عالم العولمة والسياسة لا توجد عداوات دائمة كما لا توجد صدقات دائمة كل شيء قابل للتغير. الجغرافية السياسية في اورباتغيرت عشرات المرات في هذه القارة العجوز. اندثرت دول ، مدن وإمبراطوريات لم تبقى منها الا بعض الخرائب يزورها اليوم السياحوتقع وسط مدينة روما، العاصمة الايطالية او في مدينة اثينا التاريخية. كنت قد زرت المانيا عددا من المرات قبل اتحاد الألمانيتين وبعدها. برلين العاصمة تاريخ حي و لا تزال المدينة تروى حوادث الحرب العالمية الثانية وتجد في شوارعها وامام البنايات تاريخا دون ووثق ماحصل لساكنيها في تلك الأيام العصيبة وأسماء الأشخاص الضحايا وترى كذلك برج الكنيسة المهدمة والمحروقة وسط المدينة احتفظ بها كما كانت تبدو عشية انتهاء الحرب بعد قصف برلين بالطائرات والمدافع وهدمها بالكامل كمدن الألمانية اخرى امثال درستن و نوينبركومدن اخرى كثيرة كما انك وأنت تعبر بالمترو المحطة الفاصلة بين الشرقية والغربية من برلين (كانت نقطة الحدود بين الدولتين) ستجد روعا وخوفا يدخل جسدك وتتمنى ان يسرع القطار كي تخرج من هذا النفق الرطب الرهيب. احتفظ الالمان بجزء من جدار برلين يسمىبالتركية) جدار الحياء ( كذكرى لتلك الأيام العصيبة.
انمحت شعوب وملوك وطوائف من بكرة ابيها. الزمن غربل كل ذلك الى ما نحن عليه اليوم وهذه ما نراه اليوم سيكون في عداد الماضيكذلك بعد حين وكل الى زوال. هذه الغربلة الجديدة لن تكون مؤلمة ودموية بل سيجد العلماء طرق جديدة لتغذية سكان الارض بطرقجديدة وثروات الارض لن تنضب قط عكمس ما كان قد ادعى به القس مالتوس في نظريته التي ادعى فيه مبررا الحروب والقتل فيمقالة حول( الديمغرافية ( علم السكان قائلا بان:
” وتيرة تكاثر بني البشر أسرع من وتيرة ازدياد الثروات الزراعية وكميات الغذاء المتوفرة للاستهلاك.”
لذا حسب هذه النظرية التشاؤمية سنحتاج الى الحروب لإيقاف الزيادة السكانية متناسيا تماما التطور العلمي في سبل الانتاج وتطوير البذور واستصلاح الاراضي والطرق الحديثة في الزراعة والي والتغذية وما الى ذلك.
. لكن اسلوب حياة البشر وطرق التغذية والسكن ستختلف كثيرا وتدريجيا عن ما هو عليه اليوم وفي النهاية تكون التغير جذريا ونهائياتختفي عندها كل التاريخ القديم وحوادثها وتحول الى روايات وتجارب يساعد البشرية للعيش المشترك كوحدة بشرية واحدة وكمنظومة فكرية علمية وعقلانية تعددية متساوون كأسنان المشط. هذه ليست المدينة الفاضلة التي دعا اليها الفيلسوف اليوناني افلاطون تلميذ ارسطو المغدور به. بل واقع سيفرضه التطور في العلم والتفكير العقلي والانفجار السكاني المقبل واكتشاف الفضاء وكل ما يحصل من تلوث بيئي في الثرى وفي الغلاف الجوي. اذا عرفنا ان المياه تغطي معظم الكرة الارضية فقد يكون سكننا في المستقبل على مسطحات البحار. المحيطات ولا ريب سنستفاد من امواجها لنخزنها ونحولها الى طاقة نستفد منها.
العالم اليوم جاءنا من ملايين السنيين وسيستمر كذلك ملايين اخرى اذ نحن اليوم احفاد ذلك الانسان الذي كان يعيش في الكهوف ويأكل ليتغذى من جذوع الشجر وياكل اللحم الذي من صيده للحيوانات البرية.
ونحن في المستقبل سنكون لإنسان المستقبل الأجداد اللذين تمكنوا من المحافظة على الحياة على الكوكب الارضي وسلموه الى الاجيال القادمة سليما معافى.
الأندلس
٢٠٢٤
عذراً التعليقات مغلقة