رواية “رجوع إلى الطفولة” للكاتبة المغربية ليلى أبوزيد  استرجاع حقبة سيئة السمعة

رواية “رجوع إلى الطفولة” للكاتبة المغربية ليلى أبوزيد  استرجاع حقبة سيئة السمعة

آخر تحديث : السبت 29 يونيو 2024 - 6:00 مساءً

عزيز باكوش 

Screenshot 2024 04 07 at 14.55.07 - قريش

    ليس سهلا ،ولم يكن في الإمكان أن تعبر المرأة المغربية في سنوات ما قبل استقلال المغرب وبعده بسنوات عن ذاتها بمنتهى الحرية والواقعية، بالأحرى أن تعرض خصوصياتها الأسرية وتكشف طبيعة مشاعرها أو تجرؤ الكشف وتعرية واقع علاقتها بمحيطها الأسري القريب أو حتى مجرد الإيحاء بالاقتراب من كل ما رسمته لها الخريطة الذكورية السائدة بقوة الشرع والقانون وغطرسة المستعمر الفرنسي.

    ولعل ما سنته ثقافة المجتمع السائد من خطوط حمراء خلال هذه الحقبة الملتبسة من تاريخ المغرب. ينطبق هذا على الغالبية العظمى من نساء المغرب في تلك الحقب المظلمة الموسومة بتباشير الانعتاق والتحرر. لكن في القاعدة هناك دائما استثناء على الدوام. وكما في المسرح والسينما والغناء والعلوم الحقة، يسجل لنا التاريخ بمداد من فخر ،فلتات وانزياحات لطيفة، شكلت خروجا عن المألوف .وثورة ناعمة منتفضة بنعومة ضد الواقع الرديء. هي فلتات نسائية بصمت بالضوء والألم توهجا ثقافيا مستنيرا. وخطت بالجراحات العميقة مسارات مستنيرة، أضاءت الدروب أمام أجيال قادمة.  أسوق هنا للقراء الأعزاء نموذجا مشرقا وهي قراءة عاشقة في رواية من الأدب المغربي ” رجوع إلى الطفولة” للكاتبة ليلى أبو زيد.

telechargement - قريش

   يتعلق الأمر بسيرة ذاتية تتحدث فيها امرأة مغربية من مواليد 1950  بإحدى القرى المغربية عايشت مرحلة الاستعمار وانعكس ذلك في كتابتها أدبا رفيعا. كاتبة سكنها الصمت فترات طوال، وأخرسها جبن أمام تحديات مجتمع أبوي صارم. صمت طال واستطال يترقب خلاصه ويستشرف معالم حياة مدنية جديدة متحررة وفق نظام قطرة قطرة. إنها ليلى أبو زيد سيدة ومثيلاتها لم يكن في وسعهن لحظتها سوى الصمت القهري المفضي إلى الاستعباد والجمود ولو إلى حين.

   في مقدمة الكتاب تحكي ليلى أبو زيد عن نفسها فتقول ” عندما كتبت أول مقال في أواخر الستينيات، لم تكن عندي الجرأة حتى على توقيعه باسمي الحقيقي. وعندما كتبت أول رواية تركت بلدة البطلة بدون اسم، لأنها بلدتي. بعبارة أخرى، كان على أن أنتظر سنوات عديدة قبل أن أجرؤ على كتابة سيرتي الذاتية. وتتابع مستطردة ” وحتى عندما فعلت ذلك لم أفعله من تلقاء نفسي، ولكن لأن الأستاذة إليزابيث فرنيا، الخبيرة الأمريكية المعروفة في شؤون الشرق الأوسط، طلبت مني، بالإضافة إلى أنه موجه إلى جمهور أجنبي، وأنه يمنحني الفرصة لتصحيح ما يمكن تصحيحه من أفكار مسبقة عن الإسلام والمرأة المسلمة” انتهى الاقتباس.

    لقد عاشت الكاتبة فترة اتسمت بالهيمنة والقسوة في التعامل مع الأنثى.  وكان القمع والإسكات التعسفي هو الطاغي في التعامل مع المرأة إبان تلك المراحل الصعبة في مغرب ما قبل الاستقلال وبعده بقليل. وقد تحدى القمح كل الحدود ليطال حرية التعبير في الكتابة والتأليف. ولعل هذا هو الهدف الجوهري للمؤلفة من كتابة روايتها. فالرغبة الشديدة لدى الكاتبة في كسر الحواجز والسعي وراء تحقيق المساواة بينها وبين أقرانها من الجيلين وكذلك تشجيع المبادرات الخافتة التي تنمو، وحفز الطموح الجنيني للأنثى والدفع بكل الرغبات المكبوتة ذات الصلة بالحق الكوني للأنثى، ليس في التعبير عن النفس بحرية فحسب، بل وفي ضمان سيريان مفعول هذه الحرية في كافة مجالات الحياة. ولعل هذا هو المغزى الحقيقي من الكتابة في الأصل .

   وعلى صعيد آخر، يمكن اعتبار رواية ” رجوع إلى الطفولة ” بفصولها الأربع، محاولة لتسليط الضوء على فترات مظلمة من تاريخ الشعب المغربي إبان فترة الاستعمار، وفصل موجع لسرد معاناة الذات الأنثوية على نحو خاص مع الاستعمارين الداخلي والخارجي ورصد واقعي لأساليب المقاومة والنضال المتبعة من أجل الحصول على الحق في الحياة والاستقلال. فترة كانت أولى ضحاياها المرأة المغربية. أما الوسيلة فكانت الحفر والاستبئار في الذاكرة الجمعية بهدف الكشف عن منظومة قيم أخلاقية نبيلة سادت ثم بادت، سواء بين الذات والأسرة الداخلية من جهة أو المجتمع وبينهما من جهة ثانية.  ولعل في محاولة استرجاع مشاعر القهر والقمع الذي تعرضت له الكاتبة على المستويين من جانب الأسرة المحافظة والمستعمر الفرنسي الظالم الغاشم هو نوع من التنفيس والثأر من ألم عميق إثر مواقف وأحداث اجتماعية مربكة عاشتها الكاتبة وتركت في نفسيتها أثرا بليغا.

  إن معاناة الكاتبة مع وسطها العائلي، بالإضافة إلى ما كابدته أمها في سبيل الحفاظ على أسرتها من الضياع والتفكك، هو صراع مأساوي مزدوج وتخبط مرير بين الطموح في التحرر والالتزام من العادات والتقاليد البائدة. والرسالة هنا، أنها أرادت أن تستحضر عنصر الأمومة الذي حظيت به في طفولتها وفقدته في كبرها. وقد نجحت الكاتبة والحق يقال بشكل ملفت في التوقف عند أهم المحطات المفصلية في حياتها الخاصة والعامة. وقد تكون والكاتبة ليلى أبو زيد قد وثقت سيرة ذاتية محضة، ولكنها أبدعت في الآن نفسه نصا أدبيا سلسا وبديعا. وهي تصب طفولتها في قوالب لغوية مرهفة وتنسج للمعاني والأحداث الواقعية التي عايشتها خلال فترة مهمة من حياتها متنا سرديا بواقعية ملهمة. ولذلك نراها تمتزج بين أدب السيرة وفن الرواية.

     في الفصل الأول من الرواية “القصيبة” تكتب ليلى عن رحلتها في الحافلة إلى بني ملال حيث إقامة جدها. وتوثق لأقوى اللحظات حين تحكي قصة اعتقال والدها أحمد أبو زيد وكيف كان ينقل الأخبار للوطنين وكيف انتقل إلى الرباط مشيا على الأقدام ومنع العائلة من زيارته. كما تصف الكاتبة تفاصيل من الحياة العامة وأشكال الحوار الساخر بين أفراد العائلة الجد من قبل الأم وعائلة الأب. وتسرد قصصا من صميم الواقع أحمد زوج زبيدة الذي خادع صديقه وسرق خزانة الذهب. ويبقى تعدد العلاقات والتجاذبات بين الشخصيات الرئيسية مع الزمان والمكان. حيث تتراوح بين بغض وكراهية وعداوات مجانية أحيانا.ومن الامثلة على ذلك تشبث الجدة   بصفرو مسقط رأسها، ولا تريد المكوث طويلا عند ابنتها في القصيبة. فيما الجد رغم سفره وكثرة تنقلاته   كتاجر، فإنه يعود إلى بيته في بني ملال ويطيل المكوث به. علاقات صدامية تزكيها ثقافة الجهل والتخلف السائدة السحر والشعوذة، لا سيما “بين الأم وكبورة التي لم تتزوج أحمد أبو زيد، ثم بين الأم وأولئك الذين “سحروا” للتفريق بينهما وبين زوجها ثم بين الأم و الجد حينما أخذ ممتلكاتها بعد أن سجن زوجها.” 

    وعلى صعيد آخر، يمكن اعتبار الرواية وثيقة تاريخية عن أوضاع المقاومة ضد الاستعمار في مدينة صفرو. ومن بين القضايا التي تتعرض لها الكاتبة معاناة أسر وعائلات الوطنيين والإيمان القوي لديهم بضرورة مقاومة المستعمر والتضحية بالغالي والنفيس حتى طرده وتحرير الوطن من الاحتلال الفرنسي. نجد ذلك يحدث رغم قساوة الطبيعة وضعف البنية التحتية في فترة الاستعمار وقلة وسائل النقل ما شكل دافعا لتكريس الفوارق الطبقية بين الأسر والعائلات الصفراوية. علاوة على بعض مظاهر التخلف السائدة في المجتمع كالرشوة والإيمان العميق بالشعوذة والسحر. هناك ايضا مسألة الهيمنة وتدخل الآباء وفرض آرائهم في حياة أبنائهم فيما يتعلق بقرار الزواج أو الطلاق واختيار السكن داخل خارج مع أو ضد. انطلاقا من مبدإ تقليدي يقضي باعتبار الزواج من خارج العائلة خروجا عن المألوف. ولعل التأكيد من قبل الكاتبة على بعض الممارسات الأخلاقية هو ما يمكن نعته بالتزمت الشديد الذي يكتسح أغلب العائلات المغربية وخضوعها لحكم الأعراف والتقاليد.

  في محطة صفرو، الفصل الثاني من الرواية تكشف الكاتبة عن معاناة السجناء والتنكيل بالوطنيين الذين يتعرضون لمختلف وسائل التنكيل والتعذيب من طرف المستعمر من بينها التعليق وحفر الآبار نقل الرمال في الصحراء. وتنتقل الكاتبة للحديث عن وصول أخبار تفيد بأن أحمد متزوج من امرأة أخرى. وأنها تزوره في السجن. لاحقا تكتشف العائلة أن هذه المرأة هي الشاعرة المغربية ثريا السقاط التي كان أيضا زوجها الشاعر سجينا ممنوعا من الزيارة محمد الوديع الأسفي. وعلى صعيد التعايش الاجتماعي تشير الكاتبة في هذا الصدد إلى علاقة أهل صفروا باليهود حيث ساد التسامح بينهم. وتروي مجموعة من الوقائع والأحداث المثيرة كقصة الشريفة المتسولة وقصة الفاسي الذي زوج سيدي محمد عجوزا شمطاء بدل ابنته الصغيرة الجميلة. وحكاية الجدة عن العرافة. وحكاية الجنية، كما تسهب في وصف السهرات مع الجدة وتبادل الألغاز والحكايات كحكاية هل العاشق ينام وقارورة العطر والحديث عن قريعة سيدي مختار. وزيارة الأولياء على بوسرغين الذي يشفي من الجنون. وعن أهم المشاهدات في طفولتها مثل فتاة تهرب مع حبيبها وأخرى تتزوج ابن القائد…”

أما الفصل الثالث “الدارالبيضاء” فتستهله الكاتبة بالحكي عن ألمها لفراق صديقاتها وتصالح أمها مع الجد ودخولها مدرسة المعارف حيث تعلمت اللغة العربية من منابعها. وتصف أحداث مقاومة بالبيضاء بين الفدائيين والفرنسيين واعتقال الأب مرة ثانية ومساعدة الوطنيين للأسرة وعن خروج الأب من السجن وعمله في البيضاء في لإدارة دار البراد بطريق مديونة ومن هناك سيتكفل بإيصال السلاح إلى حسن العريبي الذي وشى به أحد عماله ليتم سجنه وتعذيبه ليعتقل أبو زيد من جديد في السجن العسكري ثم تنتقل للحديث عن أوضاع الوطنيين الذين اعتقلوا بعد وضعهم قنبلة في متجر يهودي رفض مقاطعة المنتوجات الفرنسية. وهنا تصف الكاتبة أوجه التعذيب وأثره على والدها وعلى بقية السجناء. كما تحكيعن ولادة سعاد وتزامن ذلك مع عودة الملك محمد الخامس وفرحة الاستقلال. وحصول والدها على منصب باشا في مدينة بني ملال.. وهنا يتحرك الأب لتخفيف العذاب عن المعتقلين ليسجن من جديد لينقل بعد ذلك إلى سجن اغبيلة. وفي السياق نفسه تكشف الكاتبة عن دور أمها في إنقاذ السجين المحكوم عليه بالإعدام لاتهامه بقتل لمقدم. وكيف حاول عميد شرطة بني ملال أن ينتقم من الأسرة.

    في الفصل الرابع”الرباط” تتحدث عن السكن في بني ملال وظروفها في مدرسة محمد جسوس. وكيف كانت تروي القصص لزميلاتها في الداخلية ومنع المشرفة الفرنسية لها من الصيام. ثم تحكي عن عطلتها في القصيبة في بيت الحاكم الفرنسي الذي أصبح بيت العائلة. كما تحكي عن زيارتها لأحد بيوت أصدقاء الوالي حيث وجدت امرأة وجيهة كهلة قدمت لها هدية في الرباط غضب أبوها لما رآها وأعادها لها. لأنها سيئة السمعة. ثم تحكي عن انتقال الأب إلى الدار البيضاء ليستقر أخيرا مع هذه المرأة. ويكتفي بإرسال المصروف مع السائق. لكنها ستكشف عن اعتقاله من جديد مع مسيري أعضاء الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بتهمة مؤامرة 1963 م. كما تصف آثار التعذيب على وجه أبيها في سجن القنيطرة. وتروي مجموعة من آراء الاتحاديين الغاضبين الذين أصيبوا بالصدمة. ويعبرون عن آرائهم صراحة في الديمقراطية في المغرب مقارنة مع الحكومة في الجزائر.  وموقفهم من حكومة با حنيني آنذاك. كما تحكي عن الأب الذي اختار العيش مع عشيقته بدل الأسرة.  والتي لن يعود إليها. وتصف الكاتبة كيف كانت تدخل مع أبيها في نقاش سياسي واجتماعي حاد حول مجموعة من الوقائع والأحداث التي لم تجدلها جوابا حتى بعد وفاة والدها عام 1982 م.

    وتظل العلاقة بين الشخصيات في المتن الروائي للكاتبة ليلى ابو زيد تتراوح بين التحديات والرفض لا سيما بين أفراد الأسرة الواحدة أو بين الاتحاديين المعارضين وحكومة ما بعد الاستقلال.  بروز نوع من تصفية حسابات بين المواطن وأجهزة الدولة. مع هامش ضئيل للديمقراطية الحقيقية في ظل قمع ملحوظ للمعارضة. وتصاعد الوعي السياسي في صفوف أطفال المدارس وطلبة الجامعات.  كما يظهر ذلك من خلال مناقشتهم لأساتذتهم في مجموعة من المواضيع خاصة السياسية رغم الوسائل التقليدية المتبعة سيتضح أن نظام التعليم كان منتجا لمجموعة من النخبة الواعية وطبقة من المفكرين والطلبة سيكون لهم شأن في مستقبل الحكم بالمملكة.      

      وفي الرواية قضايا مفصلية في تاريخ المغرب ابان تلك الحقبة اضطهاد المستعمر للمعتقلين لا سيما الوطنيين منهم وتمسك المقاومين بمبدإ الكفاح من أجل الوطن واسترخاص الغالي والنفيس من أجله التعايش والتسامح بين المغاربة المسلمين وأهل الديانة الأخرى. رفض تعليم الفتاة المغربية بدعوة أنها ستتزوج وتصبح أما (موقف الخالة خناثة). إدخال اليهود عاداتهم إلى المغرب. صناعة الجعة البيرة إلى عير ذلك من الآثار السيئة للتخلف والجهل. كما تعرض الكاتبة لمساهمة المرأة في تحرير البلاد من الاستعمار وذلك بمساعدتها للوطنيين بنقل السلاح والأخبار. وتقدم صورا من الحرب الاقتصادية التي اعتمدها الوطنيون للضغط على فرنسا مثل مقاطعة منتجاتها الرائجة في السوق والوقوف بصرامة ضد كل من يخالف القرار. كما تكشف عن وجود عناصر انتهازية تستغل الأوضاع للربح السريع على حساب المواطنين.

رابط مختصر

عذراً التعليقات مغلقة

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com