رواية ما بعد الحداثة

رواية ما بعد الحداثة

آخر تحديث : الجمعة 18 أكتوبر 2024 - 3:34 مساءً
Screenshot 2023 08 26 at 23.02.09 - قريش

حميد المصباحي

كاتب روائي مغربي 

تطورات الآداب ترتبط بمجمل التحولات التي يعرفها العالم، سواء كانت في الواقع الغربي أو الفكر الذي حاملوه هيمنوا علما ومعرفة.

الرواية في عمق هذه التحولات باعتبارها نتاجا لهذه المجتمعات، التي اعتبرها مفكروها ونقادها، ابنة المدينة، كما الفلسفة والسياسة، بذلك تتأثر أشكال الرواية وفنيتها بحركية الفكر بشكل عام، فلا يمكن أن تظهر فكرة ما بعد الحداثة، بدون أن تجد لها امتدادا في مجال الكتابة الروائية، فما هي مميزات رواية ما بعد التقليدية؟

1 التشظي:

رفض نيتشه فلسفيا الكتابة الشارحة، فهي قيد يحاصر إمكانات التأويل المتعدد، وبذلك كتب شذرات فلسفية، نسقها غير مفضوح بإلزامية عقلية، لأنه شكك في قيم العقل نفسه، فالمسارات ليست إلا تكرارا لا نهائيا، عكس تطورية هيجل تاريخا وفكرا، في الرواية ظهرت كتابات ثائرة على نظام الفصول زمنا وأحداثا، وأحيانا على نمطية الشخوص وانسجامها مع ذاتها فكرا وقيما، فتجد صيغ الأفعال ماضية وهي ترصد الحاضر أو المستقبل، ويمارس الشخص في الرواية أفعالا غير مبررة، بل هي حصيلة اللحظة، بدليل أن وضعه نفسه إن تكرر، كانت استجاباته مختلفة ومتناقضة أحيانا، وهي تعبير عن تمزق داخلي شبيه بحالات نفسية محكومة بوعي، يستحضر اللحظة رافضا كل الحتميات العقلية والمنطقية، التي تميز ردود فعل الكائن البشري العاقل، بل حتى ما هو غريزي يتجلى بنزوات رافضة للحياة نفسها ومعبرة عن ذلك بلغة متعارضة مع وعي الشخص وقيمه وحاجاته.

2 القول التَقوِّلي:

لم يعد المحاور يعبر مباشرة عما يظنه، بل صار الروائي يعيد ما قيل قديما بلسان شخوصه، وبذلك إما أنه ينشد السخرية من شخوص ماضيا كانوا نماذج شاهدة على الحقيقة أو معبرة عنها، حتى اعتقد أنهم لسان اليقين، فاستكان الكل لهم يقينا ووثوقا، أو أن الروائي يستحضر أقوالهم لينبه أن الحاضر ما يزال محاصرا بماضيه وخاضعا له، وهو إذ يفعل ذلك، يتمرد بأدبية على ما ينبغي أن يمارس فكريا وحتى سياسيا، ويذهب حد اللعب بالالتباس فلا يعرف المتلقي أصل الفكرة أو الحكم كأن يقال بلسان مجنون أو ميت كان أبكما فأولوا حركاته ونطقوا بلسانه تعبيرا عن الوصاية التي احتلت مكان الحرية باسم الحداثة بعد أن كان ذلك يمارس باسم التقليد النقيض الجوهري للتحديث، وهنا لا يحدث التداخل في الأزمنة، بل حتى في طبيعة الشخوص الذين تتأسس عليهم حبكة العمل الروائي.

3 السيرة الغيرية:

يكتشف من خلالها الروائي سيرة شخصية معروفة، كتب عن ذاته ضيعها أو ضاعت منه في غمرة صراعات، فنسيها غفلة أو تعمدا، وهو ما يشبه العثور على وثيقة في شكل سيرة غير مصرح بها، قد تتناقض مع سيرته الخاصة، فتكون بمثابة فضح لما لم يرد البوح به، فكتب ما عثر عليه لنفسه، وفي زحمة الحياة تناساه أو ضيعه قصدا، وبذلك تكون رواية ما بعد الحداثة كأنها فضح لما لم يكتب، وبذلك فهي سيرة للغير سواء كان قد مات أو ما يزال حيا أو توقف عن الكتابة عجزا أو رفضا للكتابة نفسها وتمرد عليها، مما يوحي بأن تلك السيرة، غدت بمثابة وثيقة تاريخية وإن عبر عنها بشكل شخصي لا أحد يعرف مدى صحة الوثيقة التي عثر عليها الروائي ووظفها في كتابته الروائية.

4 حكاية الرواية:

هي سيرة لتاريخ كتابة رواية الروائي، ينطلق فيها مما دفعه لكتابته وحتى لمسارات نشرها، وما صادفه من تعديلات لها أو حتى انتقاله لدور النشر ومراسلتهم، وكيف يرغمه ذلك على التفكير فيها وحتى لتمزيق بعض فصولها انتقاما أو تخوفا أو تحفظا، وهنا يعانق الروائي القارئ ليبوح له بما اعتراه أثناء الكتابة أو النشر من عوائق وأحاسيس أو قعته في تناقضات وجودية وشخصية في الوقت نفسه، وهو ما يجعل من الكتابة الروائية، ملحمة صمود في وجه العدم والصمت وربما التلاشي.

قد يصرف الروائي في هذه الصيغة، حتى مواقف النقاد منه، فيعرض ما قيل حول روايته، وكأنه يرد على دعواهم النقدية وأحكامهم حول روايته، ليفرض إعادة قراءة ما كتب وفق المعطيات التي يقدمها والطقوس التي وفقها كتب روايته أو رواياته الأدبية بما يراه أدبا مختلفا عما سواه.

خلاصات:

الرواية ضرورة، ليست إلا تجديدا في أسلوبها الفني، بما يقتضيه ذلك من تنويع في صيغ الخطاب، ولعب بلغتها وعوالمها، مما يفرض فيها الجدة والأصالة الإبداعية، وهو ما قد يخلق تيارا أدبيا، سرعان من يشكل انتشاره موجة يقتضي الحقل الأدبي الروائي فيها تكرارا يسعى لتحقيق نموذجية، تؤكد ذلك باعتبارها جديدة ولو مرت عليها قرون.

لكنها رغم ذلك، تظل أدبا متسعا لكل أنماط القول وأشكال التعبير عنه حكائيا وفق غايات منطقها أدبية الرواية وما يقتضيه من محاولات التجديد والتجريب.

كلمات دليلية
رابط مختصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com