عبد الرزاق القاروني
*
كاتب من المغرب
فرانسيسكو سمالتو، أحد عمالقة الموضة العالمية، ومهندس تصميم أزياء المشاهير باحترافية كبيرة، وبلمسة فنية عالية، كان يلقب الرجل الذي يلبس الرجال، حيث تخصص في الملابس الرجالية، وتحديدا البدلات الأنيقة، ذات المقاسات الفريدة والمريحة. عشق المغرب، وتوفي بمراكش التي كان يعتبرها مسقط القلب.
إبداع منذ الصغر
رأى سمالتو النور، يوم 05 نونبر 1927 بالمدينة الساحلية ريجيو دي كالابريا بالجنوب الإيطالي، في أسرة متواضعة، إذ كان أبوه أنطونيو نجارا يجيد صنع الأثاث، ما جعله يبدع في جمع وتوليف أشياء خشبية جميلة، من الحجم الصغير، بورشة أبيه، الذي غرس فيه، منذ الصغر، خاصية الدقة وحب الإبداع.
وفي طفولته، ومن أجل كسب بعض المال، قدم، رفقة ثلة من أصدقائه، عروضا للدمى المتحركة، قام بتصميم أزيائها من بعض مناشف مطبخ والدته ماريا سوليتو، ما كشف عن موهبة تصميم الأزياء، التي بدأت تتبلور بداخله.
ولصقل هذه الموهبة، تلقى تكوينا مهنيا بمدرسة حكومية. وفي سن الرابعة عشر، خاط بدلة لأحد أصدقاء العائلة، ليعمل، بعد ذلك، لدى كريستياني وكامبس، الذي كان خياطا لجميع مدينة باريس.
وقبل إطلاق علامته التجارية، استفاد من تدريب لدى هاريس بنيويورك، الذي يعتبر خياط الرئيس الأمريكي جون كنيدي، ما جعله يعجب بقطع الأزياء الأمريكية التي تحتفي بالراحة والحركة.
وبعد أن اكتسب ما يكفي من التجربة والحنكة، في مجال تصميم الأزياء، أسس سمالتو، خلال شهر فبراير 1962 بباريس، دار الأزياء الخاصة به، وبسرعة وانسيابية تامتين، فرض أسلوبه في هندسة وخياطة الأزياء، حيث ابتكر طريقة قياس فريدة، واشتغل على أقمشة متميزة، ما جعل علامته التجارية تحظى بسمعة جيدة، وتنال إعجاب واستحسان زبناء من العيار الثقيل، من مختلف بقاع العالم.
ومع مجيء سنة 2001، وبعد أن شارف على بلوغ العقد الثامن من العمر، اعتزل سمالتو العمل في تصميم الأزياء، ليقتني مقاولته ألان دومينيل، رجل الأعمال الفرنسي السويسري الجنسية، الذي يستثمر، في مجال الرفاه والألبسة الراقية، عبر مؤسسة تحالف المصممين بباريس. وبعد فترة وجيزة، تزوج بالكاتبة والجمالية الروسية نتاليا لوكفينوفا، رئيسة مؤسسة “توقيع”، التي أسستها تكريما له وتخليدا لذكراه. وتوفي هذا المبدع، يوم 05 أبريل 2015، إثر أزمة قلبية بفندق المامونية بمراكش، ووري الثرى بمقبرة بانيو بباريس.
خياط المشاهير
يعتبر سمالتو مهندس المقاسات المريحة والراقية، في مجال تصميم الأزياء، لعدد من الشخصيات المرموقة في عوالم السياسة والفن والأعمال، إضافة إلى الرياضة، خلال الفترة الممتدة من سبعينيات إلى تسعينيات القرن الماضي، نذكر من بينهم، في مجال السياسة، الملك الراحل الحسن الثاني، والرئيس الفرنسي فرنسوا متيران، إضافة إلى الرئيس الغابوني عمر بونغو، وفي ميدان الفن والأعمال، هناك عدة شخصيات، من أبرزها: عبد الحليم حافظ، وألان دولون، وجون بول بلموندو، وجيرار دوبارديو، وروجي مور، وشين كونري، وكيفين كوستنير، وشارل أزنفور، وخوليو إجليزياس، علاوة على فرانسيس بويغ. أما في مجال الرياضة، فقد كان الملبس الرسمي لفريق كرة القدم الفرنسي، منذ سنة 2013.
وفي شهادة له حول هذا المبدع الفذ، أوضح مصمم الأزياء الفرنسي ستيفان رولان: “لقد كان الوهج الذكوري، لقد ألبس أكبر النجوم، لقد أظهر حقا الرجولة الأنيقة، ونوعا من الكلاسيكية الإيطالية”. أما الروائية الفرنسية فرانسواز ساغان، فتقول، في هذا الشأن: “إنه واحد من أولئك الرجال النادرين، الذين يستطيعون المزج بين الفخامة والرصانة، بين اليومي والألق. إنه حرفي وسيد”.
ونظرا لهذا التميز والمنجز الكبير، في مجال الألبسة الرجالية الراقية، استحق هذا المبدع الاستثنائي لقب “الرجل الذي يلبس الرجال”، واسمه لوحده هو مرادف للأناقة، ويوحي بالرقي والجمال في التصاميم والمقاسات والتقطيعات، ما حذا بوزارة الاقتصاد الفرنسية لمنحه، في الذكرى الخمسين لإحداث مؤسسته، علامة “مقاولة التراث الحي”، نظرا لتميزه في مهارات تصميم الأزياء. وفي هذا الإطار، يقول سمالتو: “الأناقة الحقيقية هي مسألة تناسب وتوازن ومظهر”.
مقاس ملكي
كان سمالتو مصمم الأزياء المفضل لدى الملك الراحل الحسن الثاني، الذي كان يتمتع بكاريزما كبيرة، ويتميز بثقافة واسعة وحكمة راجحة. كما كان يعتبر عنوانا للأناقة في الكلام والملبس، حيث كان يطيب له أن يقول على لسان الكاتب الفرنسي بوفون: “الأسلوب هو الإنسان”.
لقد كان العاهل الراحل راقيا وجذابا في كلامه، سواء باللغة العربية أو اللغة الفرنسية، التي كان يبهر عندما يتحدث بها، إذ كان يتقنها إتقانا محكما. كما كان أنيقا في ملبسه سواء التقليدي أو العصري، وهذا ما حذا بالصحافة الإيطالية، خلال ثمانينيات القرن الماضي، لاختياره مرتين “الرجل الأكثر أناقة في العالم”، وستظل أناقة الملك الراحل محفورة إلى الأبد في ذاكرة المغاربة، وكل من عايشه من مختلف بقاع العالم.
وفي إطار تكريم أهل الفن، تحكي الصحافة المغربية والدولية قصة إهداء العاهل الراحل لبدلة بيضاء مخططة بالأسود للعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، صممت خصيصا له، من طرف سمالتو، بناء على توجيهات من الملك الراحل، حيث صمم، في هذا الشأن، بدلتين من نفس القماش والشكل والتصميم، واحدة له، والأخرى للعندليب، لكونه كان يجله، ويطرب لأغانيه، خصوصا تلك التي تغنت بالمغرب، واحتفت بعدة مناسبات وطنية لهذا البلد، من أشهرها: “الماء والخضرة” و”ليالي العيد” و”ناداني الحب” و”ليلة قمر”، إضافة إلى أغنية “أقبل الحسن”.
وفي مذكراته، الصادرة سنة 1977 عن دار النشر “مكتبة مدبولي” بالقاهرة، تحت عنوان “مذكرات عبد الحليم حافظ كما يرويها بصوته”، والتي كتبهتا إيريس نظمي، الكاتبة الصحفية والناقدة السينمائية المصرية، خصص العندليب الأسمر حيزا هاما منها لعلاقته بالملك الراحل الحسن الثاني، وجاءت بعنوان “الملك صديقي”، ويعترف فيها عبد الحليم بأن الفضل وراء أناقته، التي ميزته عن كثير من الفنانين المصريين، يرجع للملك الراحل، الذي عرفه بأشهر الأماكن ودور الأزياء العالمية التي تعود أن يقتني منها ملابسه بفرنسا وإيطاليا، علاوة على أمريكا.
مرفأ السلام
تعتبر مدينة مراكش مركز جذب سياحي قل نظيره، منذ عقود من الزمن، نظرا لما حباها الله به من مناظر طبيعية، ومعالم ثقافية وتاريخية، ومؤهلات سوسيو-مناخية مميزة تفرض سطوتها على الزائر الوطني أو الدولي، وتجعله لا ينفك عن زيارتها كلما سنحت له الفرصة بذلك. ومن هذا المنطلق، شكلت مدينة مراكش، بالنسبة لسمالتو، مكانا للاستجمام، والاستمتاع بالهدوء والسكينة، وبما تمنحه من امتاع ومباهج الحياة، في أجواء وفضاءات مليئة بالدفء والفرجة والمناظر الخلابة، إضافة إلى الألوان الساطعة، التي تذكره، شيئا ما، بسحر الجنوب الإيطالي.
وبالمدينة الحمراء، ذات الخلفية الشرقية، والمترعة الأبواب على العالم دون إفراط في الحداثة أو تفريط في الأصالة والتقاليد، دأب هذا المبدع، منذ سنوات، على الإقامة في فندق المامونية، هذه التحفة السياحية المغربية ذائعة الصيت، التي أوت العديد من مشاهير العالم، مثل وينستون تشرشل، وجون كينيدي، وإيف سان لوران، وشارلي شابلان، وكاترين دونوف، وإديث بياف، إضافة إلى كيرك دوغلاس.
بصمة خالدة
بمناسبة الذكرى الخمسين لإحداث مؤسسة سمالتو، واحتفاء وعرفانا بحرفيتها المتميزة، في ميدان تصميم الأزياء الرجالية، أصدرت الباحثة الفرنسية دوروتي لاغارد، سنة 2012، كتابا أنيقا، من القطع الكبير، تحت عنوان “فرانسيسكو سمالتو، 50 سنة من الأناقة الرجالية” عن دار النشر “لو شيرش ميدي” الباريسية، في 135 صفحة.
وهذا الكتاب هو دعوة لاكتشاف مسار هذا المبدع المتميز بالإلهام، والشغف بكل ما هو راق وأنيق، والذي يعتبر نسيجا وحده في عالم الموضة. كما يعد رحلة استعادية إلى عمق تراث هذه العلامة التجارية الخالدة، التي تعرف بأسرار وكواليس مهنة تصميم الأزياء الراقية، وكذا بالرموز المرئية وغير المرئية للأناقة الرجالية.
كما يمكن الاستزادة حول التجربة المتفردة لهذا المبدع، في مجال تصميم الأزياء، عبر كتاب المخرج الفرنسي جان-بول سكاربيتا الذي ألفه رفقة آخرين، والموسوم بـ “فرانشيسكو سمالتو: شغف المهنة، 30 عاما من الأزياء الرجالية، 1962-1992″، الصادر عن الصندوق الوطني للآثار التاريخية والمواقع بفرنسا سنة 1992، في 102 صفحة، وهو عبارة عن كتالوغ، من القطع الكبير، حول معرض إنجازات سمالتو بخصوص الموضة الرجالية، الذي تم تنظيمه، خلال الفترة الممتدة ما بين 18 مارس و12 أبريل 1992 بفندق سولي بباريس، والذي يتضمن مقدمة للكاتبة الفرنسية فرنسواز ساغان، ويعالج مواضيع وقضايا، في هذا الشأن، مثل ظهور ديكور، ورسومات تخطيطية لملابس سمالتو، واقتباسات، والحماس الملهم لهذا المبدع، إضافة إلى الأقمشة.
ورغم رحيل سمالتو، منذ ما يناهز عقد من الزمن، لا زالت ذكراه حاضرة بالمغرب، عبر علامته التجارية المتمركزة بالدار البيضاء، العاصمة التجارية لهذا البلد. لقد عشق هذا المبدع الاستثنائي مراكش، وأودع بها الروح، تاركا وراءه بصمة خالدة، في مجال هندسة الأزياء الرجالية، التي حظيت برضى واستحسان العديد من مشاهير العالم، عبر مختلف بقاع المعمور.