” ونفس وماسوّاها فألهمها فجورها وتقواها ”
قران كريم
د. توفيق رفيق التونچي
لا تنسى انّ السلاح الذي تحمله بيدك ذو حدين. حدّ السلاح كما هو معروف نصله الذي يقطع به. لكنني لم اعنِ آلة السلاح الفيزيائي بحد ذاته بل ان استخدام السلاح صوريا ذو حدين. تساءل العالم بعد انتهاء رحى الحرب العالمية الثانية ما اذا كان يمكن وصف الجندي مجرما خاصة اثناء محاكمات أقطاب الحزب النازي من العسكريين في مدينة (نوينبرك) الالمانية التي كانت قد دمرت بالكامل عشية وضع الحرب اوزارها. حيث تمت محاكمتهم بتهم وجرائم حرب ضد الانسانية رغم انهم كانوا رجال خدموا في الجيش وان كان في مراتب عليا اي جنرال فما فوق.
من المؤكد بانهم مجرمون لهول نتائج فعلهم وامرهم بالقتال الذي ادى في النهاية الى وقوع ضحايا بشرية اكثرمن 60 مليون من البشر ومدن انهارت وملايين من المعوقين وقصص مأساوية اخرى لا مجال لذكرها جميعا. استخدم في هذا الحرب السلاح الكلاسيكي الخفيف والمدفعية والمتطور من نارية حارقة وغاز والقنبلة النووية. بالتأكيد تلاحم الجيوش متقابلين واستخدموا السلاح الأبيض اي الحراب كذلك. التساؤل بدا طبيعيا في اول وهلة من يجب يحاكم وباي جريمة؟
قد يكون القائد العسكري هو من يعطي الأوامر والتنفيذ على المراتب والجنود اي في نهاية الامر يكون المجرم القاتل الفعلي هو الجندي البسيط. لكن هذا الجندي لا يعاني من اي التباس فكري او ندم على فعلته لانه في النهاية غير مسئول عن عملية القتل رغم انه نفذها. هذه الإشكالية تستخدم في الإعدامات اذ ان الطابور العسكري اي فرقة الإعدامات وبامر احد الضباط يقومون باطلاق النار من بنادقهم على الجناة فينتشر فعل ومسؤولية الجريمة بينهم جميعا بالتساوي دون الشعور بالذنب وتانيب الضمير. حتى وان كان فقط احدى تلك الرصاصات تأتي بأجل الضحية وترده قتيلا. استخدم نفس الطريقة من قبل البعث الصدامي في اعدام الرفاق الحزبين بطابور يتألف من رفاقه الحزبيين*.
المؤسف بان جميع الأحزاب السياسية والمنظمات تبني أجهزة يسموها ، صداميه، بكسر الصاد، وهي امنيةواستخباراتي تبيح استخدام العنف والشدة وحتى قتل المعارضين والتخلص منهم جسديا عن طريق الاغتيالات .الجدير بالذكر بهذا الصددان قرارات الإعدام الحزبية لهذه الأجهزة الصادرة منهم تكون كذلك جماعية.
أتذكر ايام تأديتي للخدمة العسكرية في بغداد ،اضطر احد أصدقائي ان يقف مكرها في احد تلك الطوابير لاعدام صديق له اتهم بانتمائه الى الحزب الشيوعي العراقي. روى لي كيف تمت تلك العملية في الصباح الباكر، وكان يبكي بحرقة وهو يصف لي ما حدث ذلك الصباح الباكر وبالتفصيل .واضاف يقول:
كنت قد قررت أن أوجه فوهة البندقية على قلب صديقي كي يموت من اول طلقة ولا يشعر باي الم ويتعذب لان في واقع الامر انالمجموعة تطلق نيران بنادقها او رشاشاتها عشوائيا . واضاف بحزن شديد اعترف لك نعم انا من قتله في ثوان.
هذه الإشكالية الأخلاقية تواجه الجندي في ساحة المعركة خاصة حين تكون جبهة المحاربين من الأصدقاء والمعارف وحتى من نفسالقومية والعرق والدين ولكن افكارهم تكون متضادة. هذه الإشكالية تكون هاجسا كبيرا في الحروب الأهلية لغياب الدافع بين الخصمين للحرب والخصام والقتل دون الحوار والتفاهم وهي على الأكثر حرب فكري اي نظريا او خصام بين قائدين عسكريين فاقدين لاي فكر اوأخلاق وربما أصابهما الغرور وجنون العظمة. الغريب كذلك ان بعد مرور زمن ربما يتوصل هؤلاء القادة الى اتفاقية سلام ويتعشونمعا في مأدبة وسهرة وحفلة اقل ما يسمى تسميتها بعرس الدم**.
نحن جميعا سننفذ الاوامر خاصة اذا كنا جنودا مضطرين مكرهين. لا يوجد اي اختلاف لانّ التنفيذ للامر وليس القتل من اجل القتل. التجارب العلمية في علم النفس العسكري وتجارب الصدمة النفسية للحروب على البشر، اي ألجنود.
قام عالم النفس الأمريكي “ستانلي ميلجرام ” بتجربة الصعق الكهربائي عن طريق أشخاص يقومون بصعق كهربائي لممثل يقوم بدوره دونان يعرف الذين يجرون التجربة بأنّ الأسلاك غير مرتبطة بالشخص.، حتى عندما كان الممثل يتظاهر بشدة الصدمة و يتوسل ويصيحراجيا إطلاق سراحه. بدا تبدا الصعقة ب 30 فولت، وتزداد ببطء كي تصل الى 450 فولت وهذه الدرجة كافية لقتل الإنسان، لكنهم ومع صدور الاوامر باستمرار في رفع درجات الصعق الكهربائي حتى الى درجات قاتلة كانوا ينصاعون الى تلك الاوامر. كانت فرضيةالعالم ( ميلجرام) مبنيا اساسا للرد على انتقادات التي وجهت للشعب الالماني بكونهم ميالين الى العنف والشدة وليبرهن ان البشر بصورة عامة حين يأتيهم الأوامر من شخص ذو مكانة عالية كاوامر الجيش والقائد مثلا يطيعون تلك الأوامر كما يقال في الأحزاب الثورية : نفّذ ثمّ ناقش.
أثبتت بذلك ان الناس ينفذون الأوامر دون التفكير بالعواقب او النتائج لان المسؤولية في النهاية تقع اولا واخيرا على الآمر او القائد،الضابط، المسئول الحزبي، الجنرال…. و في النهاية على الجماعة ككل. هناك دوما استثناء وهو طبعا بنفسه سيلقي مصيره كالضحيةلموقفه ويقتل.
العجيب ان الناس باختلافهم حين يوضعون في مواقع معينة يتغير سلوكهم و يعتل نفسيتهم و مريضون. يتحلون الى اناس ذو سلوكاجتماعي متناقض وتتغير سلوكهم جذريا نتيحة تواجدهم في بيئة معينة يقبل استخدام الشدة والعنف. ربما يتحولون الى ) سوسيوبات ( ايشخص فاقد تماما التعاطف مع الضحية و ذو شخصيتين احدهم إجرامية والاخر مسالمة. مثلا هذا الذي يقوم بالتحقيق مع متهم كي يحصل منه على اعترافات حتى بجريمة لم يكن هو الجاني يعترب بارتكاب الجريمة من شدة التعذيب الذي يقع عليه. تراه أي الجلاد يستخدم أدوات التعذيب والارهاب والتهديد والتسقيط, كافة ، هو نفسه بالذات حين يعود في المساء الى بيته يحتضن أولاده ويقبلهم كانشيئا لم يحصل.
هناك دوما إشكالية فكرية في حياتنا وكل منا قد صادف او أصبح في موقف كان عليه ان يتخذ قرار بشان حياة الآخرين والأصعب طبعاحين تكون ضمن فرقة الإعدام التي جال في جبهات القتال ابان الحرب العراقية الايرانية ليحصد ارواح هؤلاء ممن صحى ضمائرهمورفضوا الحرب وقتل شقيقهم في الخندق المقابل. ليس ابناء الرافدين امثر عنفا من الشعوب الاخرى لكننا تاريخيا كان حكامنا من الطغاةواجبرونا ان نستخدم العنف قبل الحوار اي نفذ ثم ناقش ولم يكن هناك خيارات اخرى وللحفاظ على البقاء في الحياة اهم وظيفة للإنسان
لا يوجد اي حدود لوسائل التعذيب الذي واجهه العراقيون خلال سنوات ما بعد إعلان الجمهورية ومنذ عام 1958. ما حصل في اقبية السجون العراقية تجدونه في صمت الجدران وصدى صيحات المساجين والسجينات وكتابات على جدران السجون هنا وهناك في القبو المظلم في دوائر الامن لم يتمكن ولحد اليوم اي إنسان من رواية تلك الجرائم. كيف تمكنوا من استخدام هؤلاء الوحوش البشرية منالعراقيين منهم والأجانب ومن الأشقاء العرب.
. اذا تحدثت جدران اقبية السجون في مدن العراق وروت تلك الحوادث تعذيب الإنسان العراقي سيدنو له الجبين و لاستحت البشرية جمعاءمن وجود هؤلاء الوحوش بين البشر . نحن سمعنا بتوحش الفكر القومي النازي ولكن الفكر القومي العربي تعدى جمبع حدود الوحشية فيتعاملها مع البشر من أنفال ومقابر جماعية الى استخدام الأسلحة المحرمة دوليا وقصف المدن والقرى بغاز الخردل وما شابه من جرائم.
الخوف والجزع الذي ادخله النظام الفاشي في نفوس العراقيين لا يمحوه الزمن. من المؤسف بان حتى هؤلاء ممن تعرضوا لتلك المعاملةالوحشية لم يكتبوا كلمة واحدة حول تلك الحوادث. حياء او اعتبروها معيبا لان ثقافتهم البدوية وانتماءاتهم العشائرية والدينية يمنعهم منالحديث والبوح بإسرار السجون والمعتقلات كما ان الستر ومبدأ اتقاء الشر ، التقية، من المبادئ الدينية. لذا وصلنا القليل من الكتاباتالموثقة خاصة ما يشمل تعذيب النساء.
العبرة في النهاية ان الدكتاتوريات مهما طالت الى زوال والطغاة مصيرهم في مزبلة التاريخ وان المجتمع الذي يخلق هؤلاء المجرمينمن الوحوش البشرية ويستخدمونهم ، هم اللذين يتحملون جزء من المسؤولية من تلك الجرائم.
المجرمون، نعم فمَن هم المجرمون؟
الأندلس
٢٠٢٤
اشارات:
* راجع كتاب العراق، دولة المنظمة السرية، حسن العلوي. ١٩٩٠
** عرس الدم، مسرحية مسرحية عرس الدم للكاتب الأسباني فيديريكو غارثيا لوركا ، بالاسبانية: Bodas de sangre
الشاعر لوركا الذي اعدم بسبب افكاره وكان من دعاة الجمهورية
من قبل الثوار القوميين اعوان الجنرال الدكتاتور فرانكو وهو في الثامنة والثلاثين من عمره في بدايات الحرب الأهلية الإسبانية 19 أب، أغسطس 1936.