رأيٌ في اللُّغة.. 1
بقلم: د. أيمن فضل عودة
قُل: (قَبول) وقل: (قُبول)
رأيٌ في اللّغة، أكتبه مبيّنا فيه جوانب عدّة مما اطّلعت عليه ودرسته في لغتنا العربية الفذّة، وهي التي لا تضاهئُها لغة في جمالها وكمالها، فهي لغة أهل الجنة ولغة القرآن الكريم، وحي الله العظيم، وحسْبها أنها خُصّت به وخُصَّ بها؛ ما يجعلها أرقى الكلام البشري وأسماه، بلا نزاع.
ومن هذه الجوانب، أنّي قد رأيت جمالها متحصّلا في مدى اتساعها ومرونتها، لا في ضيقها وجمودها. فهي من هذا المنظار لغات، أو قُل لهجات، كما يحبّ البعض تَسْمِيتَها؛ تنوّعت وتشعّبت في المفردات واشتقاقها، كما تنوعت في نحوها وصرفها وتراكيبها.
وعلى الرغم من كل هذا، فإنه لطالما أمطرنا محبو اللغة العربية من اللُّغويين والأدباء، عَبر الصحف والمـَـجلات ومنصات التواصل الاجتماعي، بوابل من التخطيء اللُّغوي، أو تصحيح الأخطاء الشائعة حسَب زعمهم، فمنهم من يُتلمذنا بقوله: قل ولا تقل، وآخر يُطلعنا بأن هذا خطأ شائع، وذاك خطأ شائن، وتلك لُكنة أعجمية، وهاتيك لفظة ليست من العربية.
ونحن، بين هذا وذاك، لا نؤاخذ هؤلاء الأحبة اللُّغويين الأكابر على شيء، سوى أنهم أحيانا أو كثيرا ما يضيّقون واسعا من اللغة بتشددهم المفرط فيها، حرصا عليها، وَفق زعمهم ونيّتهم المعلنة؛ فيُنزلون فيها أحكاما صارمة، وكأنها لا تقبل نقاشا ولا جدالا، واللغة في حقيقتها بعيدة كل البعد عن هذا التزمّت والتضييق.
فلما رأيت هذا النهج مخالفا لللنهج الذي عهدتُه، ومجانبا لما عاينته، رأيت أن أحسر عن ساعدي وأن أدعو الله أن يكون مساعدي، لأبيّن أن كثيرا من هذا التخطيء هو الخطأ بعينه، فلغتنا العربية أسمى من أن تُجمَّد هذا الجمود أو تُحجَّر هذا التحجير، وليكونَ نهجنا وشعارنا: “يسروا ولا تعسروا”، و” بشروا ولا تنفروا”، ولنحوّلَ كثيرا من مقولات: الـــ “قل ولا تقل” إلى “قل وقل” أو “قل ولا حرج” أو “قل ولا تخف” أو “قل وبإمكانك أن تقول” ، وهكذا.. فشتان ما بين الخطأ والصواب! وما هدفنا من ذلك إلا أن نوسع ضيّقا من اللغة، وننفس عن أبنائها، ونضع عنهم شيئا من إصرهم والأغلال التي وضعت على أعناقهم في نهج التضييق والتخطيء؛ ليجدوا لهم متنفَسا ومتسَعا في التعبير والتحبير. وليس نهجنا هذا افتئاتا على اللغة، فقد سبق وقال القدماء: (أنحى الناس من لا يخطّئ أحدا)!
وعند كل هذا، وجدتُني في نهج التوسيع والتيسير والتسهيل مستدركا على الكثير مما قيل. وما أردت أن أختَبِئَ كلَّ هذا لنفسي، بل رأيته خليقا بأن يُشاع، وأن يُنشر بين الخاصة والعامة ويُعمَل فيه اليراع؛ لكي لا يبقى نهج التضييق والتقييد طاغيا في اللغة، وليستفيد منه المثقفون والإعلاميون والكتّاب والأدباء والعلماء، ممّن لم يطّلعوا عليه بعد؛ على أن يتخير كلٌّ بعدها لنفسه ما يشاء من اللغة، وحَقّ لهم الخِيار.
استدراك..
فمن بين هذا، ما تناهى إلى مسامعي، أن أحد الأحبة يخطّئ قول البعض: (قُبول) بضم القاف، بمعنى (القَبول) بفتح القاف، وهي الموافقة والرضا بالشيء؛ وما هذا إلا لأن (القُبول) بالضم، – عنده وعند الكثيرين- ليست إلا جمع تكسير لكلمة (قُبُل) عورة المرء الأمامية؛ وهي بذلك لا تعني ما يعنيه (القَبول).
قلتُ: مهلا يا صاحبي! قالقُبول لغةٌ قي القَبول وفي معناها، وإنْ لحِقَتْها معان أخرى. أوردتْها أمهات المعاجم العربية على معنى القَبول، وهاكَ ما جاء:
“( ق ب ل ) : قَبِلْتُ الْعَقْدَ أَقْبَلُهُ مِنْ بَابِ تَعِبَ قَبُولًا بِالْفَتْحِ وَالضَّمُّ لُغَةٌ حَكَاهَا ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ”[المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (7/ 294)]
وفي القَبول جاء: “وقد يضم لم يحكها إلا ابن الأعرابي.” [تاج العروس (ص: 7424، بترقيم الشاملة آليًا)]
وعلى هذا اعتمد الأستاذ العلّامة النحرير أحمد مختار رحمة الله عليه، العضو السابق في مجمع اللغة العربية المصري، حيث أوردها وصحّحها في معجم صوابه، قائلا:
“الصواب والرتبة: -يتمتَّع بالقَبُول بين النّاس [فصيحة]-يتمتَّع بالقُبُول بين النّاس [صحيحة]
التعليق: الوارد في المعاجم ضبط المصدر «قَبُول» بفتح القاف، ولكن جاء في التاج والمصباح أن ضمّ القاف لغة حكاها ابن الأعرابي.” [معجم الصواب اللغوي (1/ 599)]
والصحيح عند أحمد مختار، هو في رتبة ما لاحرج في استعماله للمثقف العربي. وشتّان الصحيحُ والخطأ!
والأستاذ أحمد مختار هو صاحب معجم اللغة العربية المعاصرة، أكّد فيه ما نقول بقوله:
“قبِلَ/ قبِلَ بـ يَقبَل، قَبولاً وقُبولاً، فهو قابِل، والمفعول مَقْبول” [معجم اللغة العربية المعاصرة (3/ 1769)]
وعليه، أستدرِك وأقول: قل: (قَبول)، ولا حرج عليك أن تقول: (قُبول)، وفي معناها!