الرباط – قريش
قال الأكاديمي والمفكر والأديب الإيطالي الدكتور ألدو نيقوسيا، خلال درس افتتاحي، حول “مشتركات الموروث الثقافي في الحضارتين العربية والغربية”، احتضنت فعالياته الاثنين 4 تشرين الثاني / نونبر، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ببني ملال، ان “الثقافة هي كل ما تبقى لنا بعدما نسيناه في المدرسة، نحن ناسين والنسيان أحيانا ضروري لتجنب الجنون، كما أن الذاكرة أيضا ضرورية فهي حافظة للهويات والانتماءات”.
وأبرز خلال هذا الدرس الافتتاحي الذي ترأسه الدكتور عز الدين نزهي أستاذ الأدب الفرنسي بكلية الآداب بني ملال، بحضور عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بني ملال الدكتور محمد بالأشهب، ومنسق الماستر ومدير مختبر السرد والأشكال الثقافية: الأدب واللغة والمجتمع الدكتور عبد الرحمان غانمي، وأساتذة جامعيون وطلبة باحثون، أننا لا ننتمي إلى بلد واحد بل ننتمي إلى بلدان وثقافات كثيرة، ونتكلم لغات مختلفة، وقال متسائلا “ونحن نتماهى مع هذه اللغات ومع هذه الثقافات، ما هي الحضارة؟ الحضارة هي ما تبقى في قلوبنا وفي وجداننا من أخلاق وآداب بعد أن دهستنا ظروف الحياة، فالحضارة ليست مجرد آثار، فكل السياح الذين يزورون المغرب يذهبون إلى المآثر التاريخية وينسون الأشخاص والسكان البادين أمامهم وهذا يعكس أحيانا نظرة متكبرة، فكما يقول باولو كويلو: “السائح إنسان غير أخلاقي”، لأن السائح يهتم بالصخور بالهياكل وينسى كل ما يدور حول الصخور”.
وتطرق أستاذ اللغة العربية بجامعة باري الإيطالية كلية العلوم الإنسانية، ألدو نيقوسيا، خلال هذا اللقاء الذي نظمه ماستر السرد والثقافة بالمغرب بتنسيق مع مختبر السرد والأشكال الثقافية الأدب واللغة والمجتمع،
إلى جانب من الثقافة المغربية من خلال فيلم مغربي قصير يروج لهذه الثقافة بشكل فني. وقال “أتذكر فيلما مغربيا من الثمانينات عنوانه L’exposé للمخرج إسماعيل فروخي، هذا الفيلم يقدم مفهوم الثقافة والحضارة المغربية بشكل ملموس ومتعدد الأبعاد، يتحدث الفيلم عن طفل من أصل مغربي مقيم في فرنسا تكلفه المعلمة بإنجاز عرض يصف من خلاله بلده الأصلي، يطلب التلميذ من والدته الأمية أن تساعده فتهتدي إلى حل مفاده أن تطبخ له طبق كسكس ويقدمه أمام زملائه في المدرسة”.
وسجل الأكاديمي ألدو، في عرضه، التحديات الثقافية التي صارت تواجه الجيل الحالي والأجيال القادمة مع ظهور نزعة واضحة إلى عولمة العادات وتنميط الثقافة، خصوصا مع انتشار الحضارة الرقمية والافتراضية التي أفرزت تواصلا سطحيا باردا لذا صارت الضرورة ملحة على أن ندافع على ثقافتنا ضد كل أشكال الطمس.
وأوضح، أننا “نعيش حضارة رقمية وافتراضية خطيرة جدا”، مضيفا “نحن منغلقين على أنفسنا ونتفرج على شاشاتنا كل الوقت وهذا هو التواصل الافتراضي، أو ما يعرف بشبكات التواصل الاجتماعي، في نظري هذه التسمية زائفة، لا يوجد تواصل بالنظر إلى الشاشة، هذا تواصل سطحي لا يصل إلى العمق، التواصل يتحقق عن طريق العلاقة الفعلية الحضورية، وقد وجدت في المغرب أن هناك نزعة إلى عولمة العادات، كل الأشخاص يتصرفون بنفس الطريقة، ممكن قبل ثلاثين أو أربعين سنة كان الناس يتصرفون بشكل مختلف بمعنى كانت هناك فروقات بين بلد وآخر.”
كما اعتبر أن هذه الظاهرة خطيرة “تكشف عن فقدان الهوية وغياب أية ملامح خاصة” معتبرا أن “التحدي الكبير خاصة بالنسبة للأجيال الجديدة هو أن نفهم الحضارة الحية والحضور الحي، لذلك أقول ينبغي على كل مواطن أن يدافع عن ثقافته، عن حضارته ضد الطمس والدهس القادم من الثقافات الأخرى، مثلا نحن في إيطاليا نستعمل كلمات إنجليزية خاصة في مجال الإعلانات والإشهار وكذلك في السياسة، لأن الكلمة الإنجليزية يكون لها وقع ناعم وخفيف ومحبَّب لدى المتلقي عوض استعمال الكلمات الإيطالية التي لها وقع صارم وقوي، في الواقع نحن نعيش باللغة في إطار من الكلمات، وكل أفكارنا تقود تصرفاتنا حسب الكلمات، لكن الكلمات تصف الواقع بطريقة سطحية، نحن نحتاج ثقافة متعددة الأبعاد”.
من جهة أخرى، تحدث الأكاديمي ألدو نيقوسيا عن أصله الذي يعود إلى صقلية وعن ارتباط هذه الجزيرة الإيطالية بالتطريزة الصقلية المعروفة في مدينة فاس، وأيضا عن عائلة الصقلي المعروفة بالمغرب.
وقال الأكاديمي ألدو: “أنا من جزيرة صقلية، وسكان فاس يعرفون التطريزة الصقلية، ولقب الصقلي الذي أثار استغرابي في أول مرة سمعته راجع إلى أن عددا من سكان من المغرب لهم أصول صقلية ربما كانوا مطرودين منذ القرون الوسطى بسبب محاكم التفتيش، والتاريخ مليء بهذه الوقائع المؤلمة، وعندما أتحدث مع سكان شمال إيطاليا وأخبرهم بأنني من الجنوب يقولون أنت لست من الجنوب بل من الشمال، عندما أسألهم كيف ذلك؟ يردون بأنني من شمال إفريقيا، مبررين ذلك بمجموعة من العناصر الثقافية التي تتميز بها صقلية، منها ملامح الوجه، فنحن في جنوب إيطاليا قريبون جدا في السمات الثقافية من بلدان شمال إفريقيا، كما أن جزءا كبيرا من الثقافة الصقلية هو عربي، وقد كان هناك شعراء صقليون عرب منهم ابن حامديس في القرن الحادي عشر الميلادي، وأيضا رحالة مغاربة منهم ابن جبير الذي وصف العديد من المدن الصقلية”.
كما تناول الحديث عن اللهجة الصقلية ، موضحا، أن دراسة علمية “أثبتت في الثمانينات في بحث سوسيولساني أن اللهجة الصقلية تتضمن أكثر ستمائة وخمسين كلمة من أصل عربي، وأحد جيراني في صقلية اسمه مولاي، وأيضا هناك اسم مرابطو التي أصلها مرابط، كما أن هناك موروثا عربيا في أسماء الأماكن والمدن الإيطالية التي تبدأ بكلمة مرسى مثل: مرسالا، مرسا ميمي وأيضا كلمة قلعة، كالطا بالإيطالية، فكل يوم نمتص الحضور العربي العريق منذ قرون”.
كما سلط بالمناسبة الضوء على اللغة العربية، معبرا عن اعتزازه كونه يتحدث بها دائما عندما تتم استضافته من قبل البلدان العربية في كل المؤتمرات العربية فإنه يفضل باللغة العربية عوض التكلم بالإنجليزية أو بالفرنسية “وهذا اختيار مبدئي، يعكس تكريمي للبلد الذي يستضيفني، وهذا شيء من أساسيات الأخلاق والآداب”.
وأبرز عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية الدكتور محمد بالأشهب، في كلمة بالمناسبة، الاطلاع الواسع لضيف اللقاء الأكاديمي ألدو نيقوسيا بالثقافة المغربية في كثير من مفاصلها، وأنه “يمثل ثروة و خبرة خصوصا فيما يرتبط بالماستر”.
كما تطرق الدكتور عبد العزيز القاسمي أستاذ الدراسات الإسلامية بكلية الآداب بني ملال في معرض حديثه إلى أهمية الأعراف والتقاليد في الثقافة المغربية خاصة وفي الثقافة العالمية عامة، لهذا يأتي هذا الدرس الافتتاحي للنظر في التقاليد المغربية وأن التكامل والتثاقف التلاقح هو الإطار العام الذي ينبغي أن يفتح لنا آفاقا في البحث الأكاديمي.
كما تقدمت الطالبة الباحثة هند الراضي، عن الفوج الخامس للماستر بكلمة عبرت من خلالها عن أهمية هذه اللقاءات التي تحتضنها كلية الآداب والعلوم الإنسانية بني ملال، مشيرة إلى العناية التي يوليها المختبر والماستر لمثل هذه اللقاءات الأكاديمية باستضافة الأيقونات الأدبية والفكرية من المغرب ومن خارجه.
وفي كلمته عبر عبد الرحمان غانمي عن كون ضيف هذا اللقاء، الأكاديمي ألدو نيقوسيا، هو ضيف استثنائي باعتباره يتحدث عن الثقافة المغربية باللغة العربية، وهو مهتم أيضا باللهجات المغربية، وأن أطروحته لنيل درجة الدكتوراه قد تضمنت جزءا مهما باللغة العربية، فضلا عن اهتمامه بكثير من المتون المغربية التي تناولها بالترجمة والتحليل، وكان له شغف وعشق للغة العربية منذ سن مبكرة.
وأشار غانمي ، إلى أن جينات الثقافة المغربية هي جينات منفتحة وفي ذات الوقت متجذرة وراسخة تكشف عن العمق الثقافي المغربي، مؤكدا على أن اللغة العربية لم ترتبط أبدا بالعرق، والدليل على ذلك كون العديد من العلماء والأدباء لم يكن أصلهم عربي بالمعنى العرقي لكنهم أبدعوا باللغة العربية.
وتابع غانمي، أن الكثير من الجامعات الغربية كانت تدرس علومها باللغة العربية، والعديد من المسيحيين كان لهم أثر كبير في تطوير اللغة العربية، منتقلا إلى الحديث عن أن المختبر فتح العديد من القنوات في إيطاليا وإسبانيا وهذا كله يخدم التلاقح الثقافي والحضاري ويعزز الفائدة لصالح الطلبة والباحثين.
ويذكر أن هذه الفعاليات التي تميزت بتقديم هدية تذكارية للأكاديمي ألدو، من طرف الفوج الخامس للماستر، عرفت مناقشات أعقبتها إجابات عن أسئلة المتدخلين من الطلبة والباحثين.