عبد الخالق الحمدوشي: روح القيادة وصانع المعنى
: عبد القادر العفسي
كاتب من المغرب
إن الإنسان، حينما يقترب من عوالم الطبيعة الجبارة، ومن المآثر التاريخية الخالدة، ومن الإنجازات الاجتماعية الكبرى، يجد نفسه في مواجهة شعور يتجاوز حدود الإدراك الاعتيادي: إنه الشعور بالرهبة الكونية والروعة المتعالية، هذه الظواهر ليست مجرد وقائع تُرى أو تُحس، بل هي حقول من الامتداد اللامتناهي، عوالم من الانفتاح الذي يتخطى أفق العقل ويمتد إلى جوهر الوجود ذاته، إنها تستوعبنا في كيانها، تتملكنا بمعناها، وتسلبنا وعينا الفردي لتجعلنا جزءًا من وحدة أزلية تسري في تفاصيلها.
تلك التجربة تتجلى عندما تقف أمام البحر السرمدي، كأنك تلامس عمق الزمن ذاته، أو حين تواجه الجبال التي تعلو كرموز أبدية تتحدى الفناء، أو المدن التاريخية التي تحمل ذاكرة الإنسانية بين أزقتها ، والأمر ذاته يتكرر في لحظة الانتصارات التاريخية الكبرى، حينما يصبح الزمن نفسه شاهدًا على إرادة تفوق المصير.
غير أن هذا الشعور يبلغ حالة استثنائية من العمق والارتقاء عندما تواجه كيانًا إنسانيًا يتجاوز حدود الفردانية : شخصية حضارية بطولية، تتجسد فيها كل تلك الأبعاد الماورائية، إنها ليست مجرد حضور إنساني، بل ظاهرة وجودية تمتد بين القرب المطلق الذي يتحد بك، والبعد السرمدي الذي يظل عصيًا على الامتلاك، أمامها، تصبح الذات في حالة انبهار جوهري: شعور مزدوج بالحب الذي يفتح القلب، وبالرهبة التي توسع الوعي… إنها لحظة يلتقي فيها الإنسان مع نفسه، لا بوصفه فردًا عابرًا، بل بوصفه جزءًا من عمل إنساني خالد، عمل تتماهى فيه الذات والكل، بل انه مشهد داخلي تعيد النفس قراءته عبر هذا الاتحاد المتفرد ، لذالك فنحن عندما نتكلم على الرفيق “عبد الخالق الحمدوشي” السياسي النقابي بالعرئش لبد لنا من أبعاد ثلاث متطابقة :
أولا: البعد العاطفي الذي يجذبنا إليه
ثانيا: البعد الموضوعي
ثالثا: أبعاد المسؤولية لكل واحد من موقعه دفاعا عن الوطن والإنسان
الحب الذي يشدّ أواصر علاقتنا بالرفيق “عبد الخالق الحمدوشي” ليس حالة عاطفية عابرة ولا إعجابًا سطحيًا محدود الأثر، بل هو مرآة تعكس رؤية متكاملة، تمتد جذورها في وعي عميق لدوره التاريخي ودلالاته الرمزية على المستويات النقابية والحزبية، إن هذه العلاقة ليست علاقة جامدة، بل هي نسيج متداخل من بعدين جوهريين: العاطفة التي تمنحها حرارة إنسانية وتجعلها تنبض بالحياة، والعقلانية التي ترسي أسسها وتضفي عليها عمقًا فكريًا يجعلها ترتقي إلى مستوى التجربة التاريخية الحية، بيد أن أي اختلال في التوازن بين هذين البعدين يهدد بانكماش العلاقة وتجريدها من أبعادها الإنسانية الكبرى، فإن غلبت العاطفة وحدها تحولت العلاقة إلى تجربة عاطفية مبتورة، وإن انفرد العقل وحده انزلقت إلى صلة ميكانيكية باردة تفتقر إلى الروح .. إن الصلة الحقيقية مع الرفيق تتجاوز هذه الثنائية المحدودة لتتجلى في المشاركة الخلاقة في صنع الواقع وإعادة صياغته، حيث تتآلف العاطفة النبيلة مع التحليل العقلاني العميق في وحدة عضوية تمنح العلاقة بعدها الحيوي والإنساني.
وعندما نتأمل في المسيرة التاريخية، نجد أن عاطفة الرفيق الكبير “عبد الخالق الحمدوشي” تنسجم تناغمًا فريدًا مع وعيه الفكري ودوره القيادي، ومن موقعه في بناء المسيرة النقابية والحزبية، يتجلى أمامنا نموذج فريد لشخصية جمعت بين الفكر والنضال في تناغم خلاق، إنها شخصية استطاعت، بما تحمل من قوة توحيدية بين العقل والعاطفة، أن ترتقي إلى مصاف الشخصيات البطولية النادرة التي تسطر صفحاتها بمداد الاستثناء والخلود.
الرفيق “عبد الخالق الحمدوشي” ليس مجرد إنسان يعبر لحظة زمنية عابرة، بل هو تجلٍّ حي لفكرة القيادة كظاهرة تاريخية تنبثق من صيرورة الحضارة ذاتها، إنه شجاعة تتجاوز المألوف، نادرة في طبيعتها، تتسامى فوق السطحية لتغدو ظاهرةً إنسانية تجتمع فيها نوادر الطاقات البشرية، وتتجذر في عمق الهوية المغربية الأصيلة، بين ثنايا الطموح البطولي والإرادة التي تصوغ المستحيل.
إنه زعيم عصري، يحمل على عاتقه إرثًا متوهجًا بروح التراث، لكنه في ذات الوقت ينسج رؤيته في حوار مفتوح مع المستقبل، هذه الازدواجية ليست تناقضًا، بل هي دليل على قدرة استثنائية: الجمع بين الحضور في لحظة التاريخ وفهمها، وبين استشراف آفاقها التي لم تولد بعد، هنا يكمن سِرُّ قوته، فهو يعي أن القيادة الحقيقية ليست مجرد فعل مؤقت، بل رؤية شاملة تحيا في الزمن وتعيد تشكيله.
الرفيق “عبد الخالق الحمدوشي” هو القدرة المتفردة على قراءة الواقع كما لو كان نصًّا مفتوحًا، تتجاوز قراءته حدود المعطيات السطحية إلى عمق المعاني المستترة، إنه يمارس قراءة علمية حضارية، تنفذ إلى جوهر الأشياء، حيث يرى ما لا يُرى، ويترجم ما يَصعب ترجمته، رؤيته للواقع ليست انعكاسًا له، بل عملية إعادة تشكيل فكرية تُضيء ما بين السطور ، وهنا، تبرز الظاهرة النضالية في شخصيته: الحوار العميق مع التاريخ، ليس حوارًا ساكنًا أو أكاديميًّا، بل هو عملية جدلية متواصلة بين الماضي والحاضر، بين الحكمة الشعبية العفوية والنظرة الفكرية المستنيرة ، إنه يعيد للحاضر روحه التاريخية، لا ليقيده، بل ليحرره، مشجعًا الناس على استعادة شعورهم بالبطولة والقدرة على التضحية، إنها القدرة على الربط بين النضال والواقع، بين النظرية والعمل، هي سرُّ فرادته، فهو مناضل يعيش في معادلة متحركة، تتجاوز التجريد النظري البارد والتجريب العشوائي الفوضوي.. الأفكار في رؤيته ليست مفصولة عن جذورها الحية؛ إنها نتاج جدلية مستمرة بين العالم الحي والمبادئ المتعالية.
“عبد الخالق الحمدوشي” هو فلسفة القيادة في أبهى تجلياتها: ظاهرة إنسانية تقرأ حركة الواقع بوعي تاريخي، تصوغ حاضرًا مليئًا بالمعنى، وترسم طريقًا نحو مستقبل يليق بالأحياء الذين يحملون في قلوبهم شجاعة تجاوز العادي وملامسة العلى، ففي عتمة هذا الزمن المتأرجح بين التزييف والانحلال، ينبثق الرفيق “عبد الخالق الحمدوشي” كشعلة وعي ترفض الانطفاء وسط أنقاض المعاني المسلوبة، إنها مرحلة تصرخ من وجع الأفكار المُشوّهة، والتاريخ المُصادَر، حيث يغزو الساحة أدعياء النضال، أولئك الذين يحوّلون الوهم إلى أداة، والخيال المريض إلى منظومة، إنه زمن تنهار فيه المسافة بين الفكر والممارسة، وينكشف فيه زيف الأسطورة التي تختبئ خلف أقنعة ذاتية، مسكونة بالسادية ومهووسة بإرهاب الآخر، مُحترفة في قتل الفكر والتجارة بآلام الوطن ومصير الأمة.
لكنّ المعجزة، كما تُجسّدها شخصية الرفيق، ليست مجرد انعتاق من هذا التيه، إنها فلسفة قائمة بذاتها، عمادها ثلاثية أبعاد مترابطة: أولها الحب، لا كعاطفة عابرة، بل كجوهر كوني يفتح الآفاق أمام إنسانية أعمق، وثانيها الإيمان المتأصل برسالة الإنسان كفاعل حضاري، وثالثها الالتزام بروح القيادة التي تجعل من استمرارية الأمة مشروعًا أبديًا يتحدى الزمن والجغرافيا ،الرفيق “عبد الخالق الحمدوشي” ليس مجرد قائد نقابي/سياسي؛ إنه روح متجسدة في هيئة إنسان، يرى البطولة في الآخرين كما يراها في ذاته، ويُطالبهم بما يُطالب به نفسه، واضعًا معايير البطولة في موضع يسمو على صغائر الأوهام الفردية. محبته ليست عاطفة عشوائية، بل هي انبثاقٌ من صميم فلسفة أخلاقية ترى في الآخر مرآةً للذات، وفي التضاد فرصةً للتكامل، بهذا الحب المتجاوز للذات، استطاع أن يُشعل جذوة الحضارة في أعماق الكل، وأن يُظهر أن البطولة الحقيقية ليست في الصراع، بل في القدرة على البناء وسط حطام المفاهيم.
ورغم كل الأدوات الوظيفية التي تعتمد على إعادة إنتاج أساليب نازية مشوهة، تهدف لصنع زعامات هزيلة وأدوار تخدم الانحرافات الكبرى، فإن هذه الأدوات سقطت أمام وعي أمة ترى في الحقيقة نورًا لا يمكن حجبه بصيغ الزيف، فالفرق واضح كوضوح الشمس التي ترفض الخضوع للغيوم العابرة: بين الزعيم الذي يبني الإنسان، والمنقاد الذي يهدم كل شيء؛ بين البطل الذي يعشق الحياة بكل أبعادها المشرقة، والمهووس بالموت والغارق في الحقد والكراهية، إنّ “عبد الخالق الحمدوشي” ليس رمزًا للنضال فحسب، بل هو فكرة تتجاوز الزمن، مناضل من أجل الحرية والقيم العليا تؤكد على أن الماضي والحاضر والمستقبل ليسوا مجرد محطات زمنية منفصلة، بل حلقات متشابكة في سلسلة الإنسانية الكبرى، وفِي ولائه للقيادة السياسية لجلالة الملك دام ظله، يُرسخ “الحمدوشي” مفهومًا حضاريًا للولاء، ليس كخضوع أعمى، بل كالتزام فكري وروحي يُعبّر عن وحدة الوجود بين الفرد والأمة ، إنه المعنى الذي يوقظنا من سباتنا، ليؤكد أن البطولة الحقيقية ليست في خوض معارك خارجية، بل في خوض معركة الوعي ذاته، في تحويل الألم إلى أفق، وفي جعل المستحيل مشروعًا للحرية والكرامة.
إن الحديث عن الرفيق “عبد الخالق الحمدوشي” لا يمكن أن يُختتم دون التوقف عند سؤال جوهري، سؤال يتجاوز الكلمات ليغوص في أعماق التاريخ وفلسفته: كيف يولد مناضل حقيقي في معترك الزمن؟ وما هي الشروط التي تتآلف لتصنع هذا الميلاد؟ وكيف يتحول الإنسان إلى مناضل يقف في قلب النضال، جامعًا بين الفكر والقيادة من موقع سياسي ونقابي؟
إنه السؤال الذي لا تنفك عنه كل الأسئلة، السؤال الذي يحمل بين طياته “كلمة السر”، تلك التي تقاوم الإجابات المبتذلة والهروب إلى القوالب الجاهزة.. هنا، لا يكفي أن نحشد الأسباب الذاتية والعوامل الموضوعية، أو أن نستنطق منعطفات التاريخ وأزماته، فهذا النوع من الأسئلة ينتمي إلى مستوى آخر، مستوى يجعلنا نعيد النظر دائمًا في الإجابات لنعود ونطرح السؤال من جديد في قلب هذا التساؤل، تكمن رغبة التاريخ في الاحتفاظ بأسراره الكبرى، فالتاريخ أحيانًا يتجاوز ما يمكن للعقل أن يفسره أو للمنطق أن يحكم عليه، إنه ذلك الفيض الذي يتحدى ضيق التفسيرات العلمية أو الآليات المباشرة، إنه إرادة الخلق المتجدد التي تتجلى في خلق الأمم وإعادة صياغة المصائر…هنا، يظهر الإيمان بوصفه المفتاح الذي يوحد ما كان يبدو متناقضًا: الحرية والضرورة، الذاتي والموضوعي، الخاص والعام، الصدف والعوامل، هذا الإيمان ليس مجرد قناعة داخلية؛ إنه الإيمان الخلاق، ذلك الذي كان كلمة السر وراء ميلاد “عبد الخالق الحمدوشي” كواجهة نضالية متقدة ، فهو الذي امتلك ذاته أولًا، واستطاع تحقيق التناغم بين داخله وعالمه، بين القيم التي يؤمن بها والحياة التي يعيشها، بين فكر النضال وممارسته اليومية.
الرفيق “عبد الخالق الحمدوشي” ليس مناضلا فحسب؛ بل حالة استثنائية تتوحد فيها البطولة بالتواضع، والعقلانية بالحدس، والفكر بالممارسة، نموذجًا لمن يستطيع أن يحافظ على صفاء النضال وشفافيته، متجاوزًا العوائق الذاتية والظروف المحيطة ، هو الذي سبق زمانه برؤيته الثاقبة، ووعيه التاريخي، ونظرته العلمية، يحمل في داخله إرادة التحدي وسمو السلوك، متجردًا من الأنانية، رابطًا الموضوعية بحب الحقيقة، تلك صفات الرسل الحضاريين، أولئك الذين يصنعون التاريخ من جديد، فيكتبون صفحاته الإيجابية ويعيدون تعريف معنى القيادة والنضال .
ذلك هو الرفيق عبد الخالق الحمدوشي، ابن العرائش، الذي استحق أن يُخلَّد كرمز لزعيم ارتقى بالإنسانية حينما امتلك مفاتيحها العميقة، فكان أكثر من رفيق…
انه روح تعيد تشكيل المعنى .