أيمن رفعت
سوريا والقومية العربية
العجز العربي
ممنذ هزيمة المشروع الناصري في ٦٧ والعرب عاجزون عن تحريك واقعهم أو توجيهه أو إيجاد بديل له، وقد نتج عن هذا العجز ظاهرتين. الأولى هي تشكيل مثلث للقوى المؤثرة في الشرق الوسط من إيران وإسرائيل وتركيا، وبالطبع يلعب النظام العالمي الأحادي (مثتملا في الولايات المتحدة) دورا محوريا بين رؤوس هذا المثلث. الظاهرة الثانية هي تحول العقل العربي من مسار التحرير الوطني إلى مسار محافظ يحاول إيقاف حركة التاريخ وتثبيت الواقع، إدراكا منه بأنه بأنه لم يعد فاعلا في هذا الواقع، بل مفعولا به من مثلث قوى غير موثوق بها، فإذا كنا عاجزين عن التقدم خطوة واحدة، وفي نفس الوقت لا نثق في المؤثرين، فعلى الأقل يمكنا التشبث بمواقعنا فلا نتراجع، ولكن لأنه يستحيل إيقاف عجلة التاريخ أو التغلب على حركته ، فقد تراجع العرب للوراء خطوات كثيرة، وسيطر هذا المسار المحافظ على العقل العربي حتى في نخبته المثقفة التي تحولت (ياستخدام مصطلحات جرامشي) من دور المثقف العضوي في الربط بين البنية الفوقية والتحتية للمجتمع إلى مثقف تقليدي أنعزالي يخدم مصالح الطبقة الحاكمة. تفضل هذه النخبة الديكتاتورية العسكرية (بقايا المشروع الناصري) على التيارات الدينية التي نتجت عن مشروع النهضة الإسلامية وأنتجت في أفغانستان تجربة رجعية معادية لكل أشكال التحديث، بينما على الأقل حافظت الديكتاتورية العسكرية على هامش صغير من التحديث، وإن كان شكليا. وإذا كان هذا المبرر لانحياز المثقفين مفهوما، فإن رفضهم للتيارات الدينية بحجة أنها لا تؤمن بالديمقراطية مثير للسخرية بدرجة كبيرة، كأن الديكتاتورية العسكرية تطبق نظاما ديمقراطيا! والحقيقة أنهم لا يتذكرون الديمقراطية إلا في نقد التيارات الدينية. وبدلا من دورهم في توعية وتثقيف الجماهير، فإنهم يختلقون الخطر كأنهم زرقاء اليمامة، ويلغون العقول تسهيلا لقيادة القطعان وحشرها في حظائر الديكتاتورية العسكرية. على سبيل المثال، يخوف هولاء المثقفون شعوبهم مما يحدث في سوريا، ناسين أن دفع الشر المؤكد أولى من تجنب الشر المحتمل، وأن تحرير الإنسان أولى من نحرير الأرض، فيدعون قلقهم من احتمال انقسام سوريا أو وقوعها في حرب أهلية، ولكنهم ينسون أن سوريا تحت حكم الأسد انقسمت بالفعل ووقعت فريسة حرب أهلية وتحت النفوذ الأجنبي الروسي والأيراني والأمريكي والبريطاني. ويتباكون على احتلال إسرائيل المنطقة العازلة مع سوريا بعد رحيل الأسد، متناسين أن الحكم العسكري في مصر يتجاهل احتلال إسرائيل محور صلاح الدين في رفح رغم اتفاقيات الأمن. ويتهمون ثوار سوريا أنهم دخلوا دمشق بدعم أجنبي، ناسين أنه لا يوجد حاكم عربي الآن لم يصل إلى منصبه دون دعم أجنبي. ألم يقل الدكتور مصطفى الفقي (سكرتير الرئيس مبارك للمعلومات ثم رئيس لجنة العلاقات الخارجية بالبرلمان) أن الرئيس القادم لمصر (بعد مبارك) يحتاج إلى موافقة أمريكية وعدم اعتراض إسرائيلى؟
رويا تحجب الرؤية
تاريخيا، شهدت سوريا تسع انقلابات عسكرية منذ ١٩٢٥ حتى ١٩٧٠، انتهت بتوريث الحكم لشاب مدلل ليس له أية خبرة سياسية، ولذلك لم تكن ثورتها لتنجح دون معارضة مسلحة. (ولكن هل يمكن لثورة غير مسلحة أن تنجح؟) فهل ما حدث في سوريا في الأيام السابقة مرحلة من مراحل الثورة الشعبية التي بدأت مع الربيع العربي سنة ٢٠١١ ضد الديكتاتور بشار الأسد؟ إذا كانت الإجابة بنعم، فلماذا قامت الآن بعد ثلاثة عشر عاما من تحت الرماد كطائر العنقاء؟ يربط القوميون العرب استعادة الثورة السورية لعافيتها مؤخرا بخطة نتنياهو لتغيير خريطة الشرق الأوسط، والتي أعلن عنها في سبتمبر الماضي أثناء خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة. فتفعيل خطته كان لابد من تقسيم سوريا وإضعاف الفريقين المتقاتلين دون السماح لأحدهما أن ينتصر على الآخر نصرا نهائيا، وبالطبع ليس هناك للتقسيم طريقة أفضل من إشعال صراع طائفي بين الشيعة (الممثلة في النظام السوري المدعوم من إيران) وبين السنة (الممثلة في هيئة تحرير الشام المدعومة من تركيا “عضو الناتو” ودول الخليج العربي)، ولم لا والمشرق العربي يعيش الآن عصر ملوك الطوائف.. المرحلة الاخيرة قبل سقوط الأندلس في المغرب العربي. ولقد وافقت أمريكا على هذه الخطة لتشتيت الجيش الروسي وإشغاله عن أوكرانيا، وكذلك قطع الأذرع الإيرانية المحيطة بإسرائيل. وهكذا ظهر الجولاني، عضو سابق في تنظيم القاعدة، سجنته القوات الأمريكية في العراق، وتحالف مع داعش ثم انشق عنها، وتصنّفه الحكومة الأمريكية كإرهابي ومازالت مخابراتها ترصد مكافأة ١٠ مليون دولار لمن يدلي بمعلومات تؤدي للقبض عليه، ومع ذلك تحاوره أكبر قناة إعلامية أمريكية، فيظهر فيها كنجم سينمائي لا مقاتل متخفي، وقد تخلى عن كوفيته ولحيته الكثيفة، ويتحدث – دون الاستشهاد باي نص ديني – عن أمله في تحقيق دولة القانون وحماية الأقليات وانهاء الطائفية ، لانه – على حد تعبيره – لا يستطيع احد إلغاء الاخر. هل هذا فيلم هوليودي؟ أم هو جزء من محاولة ترتيب الأوراق قبل عودة ترامب (القيصر القديم /الجديد) إلى البيت الأبيض؟
يشكك القوميون في أن الجولاني قد أوصل لواشنطن تعهدات لا نعلم طبيعتها، ومما أكد شكوكهم أن إسرائيل قامت بضرب مخزن أسلحة بشار الأسد كأنها تضعفه بينما كان قوات الجولاني تزحف باتجاه دمشق، ثم يصرح ترامب بأن أمريكا يجب ألا تتدخل لأن أحداث سوريا لا تخصها في شيء.
هذه الرؤيا المسبقة هي رؤيا ايديولوجية جامدة لا تتأثر بالأحداث، بل تصادر على المستقبل، وتجعل الماضي يحكم عليه، لكن هذه الرؤيا تغيرت بعد ساعات قليلة من دخول دمشق، فالضربات الاسرائيلية المستمرة تدل على عدم وجود تفاهمات مع اسرائيل، والبيانات الروسية والإيرانية تؤكد أن الأسد غادر (كفأر) بعد تفاهمات مع الجيش والمعارضة للحفاظ على وحدة سوريا، وما بؤكد هذه البيانات التقدم السريع للمقاومة وانسحاب الجيش دون قتال، وسوف تتأكد في الايام القادمة ان لم يتم حل الجيش، كما عاد الجولاني لاسمه الحقيقي (احمد الشرع) وخطب في المسجد الأموي خطبة دينية بعد خطابه الليبرالي في حديث السي ان ان، وطلب من رئيس الوزراء الاستمرار في عمله ومن أتباعه عندم التعرض لمؤسسات الدولة. أما هيئة تحرير الشام، التي كانت تسمى جبهة النصرة، فظهر أنها مجرد الجناح العسكري للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية التي يرأسها الدكتور هادي البحرة، في تجربة فريدة لم تشهدها المنطقة من قبل، وهي توافق تيارات سياسية مختلفة على مصالح وطنية، تعترف بها جامعة الدول العربية كممثل للشعب السوري. ولكن التحدي الحقيقي لهذا الائتلاف هو ما بعد بشار. فمن الطبيعي أن يتوافق الفرقاء في مرحلة الهدم، لكنهم يتقاتلون في مرحلة البناء.
التنبؤات الدينية التي تحكم الشرق الأوسط
بسقوط نظام الأسد سقط آخر نظام يرفع شعار القومية العربية، فلماذا فشلت القومية العربية؟ هناك أسباب عدة لهذا الفشل. أولا، ارتباطها بالديكتاتورية العسكرية في مصر وسوريا والعراق واليمن وليبيا. ثانيا المتاجرة بقضية فلسطين دون ان تستطيع ان تقدم لهذه القضية شيئا إلا أن زادتها تعقيدا. ثالثا الفشل في احتواء التيار الإسلامي لأنه تيار أممي (عابر لفكرة الوطن) رغم أن الإسلام يشكل أحد مكونات القومية العربية، ورغم أن القومية العربية استوعبت وتحالفت مع تيارات اشتراكية أممية. رابعا كانت القومية العربية دخيلة على العقل العربي، واحتاجت الي يد الاستعمار الإنجليزي لدفعها، ولقفها المثقفون العرب (خاصة الشوام) الذين تثقفوا بثقافة غربية.
في مقالاته عن الثورة الإيرانية، رأي المفكر الفرنسي ميشيل فوكو أنه بسبب غياب الفلسفة عن الشرق، فإن الدين يلعب فيه نفس الدور الذي تلعبه الفلسفة في الغرب، وهو إنتاج الايديولوجيات السياسية وتحريك الجماهير. لم يذكر فوكو رأيه هذا بشكل معياري (خير أم شر) بل بشكل وصفي، لكي يشرح للغرب كيف كان الدين وقودا لثورة سياسية في إيران. ومن الواضح أن الغرب استفاد من هذا الرأي في ترتيب مصالحه في الشرق الأوسط، فاستطاع أن يوظف بعض الجماعات الدينية الإسلامية لخدمة مصالحه في الشرق الأوسط، كما وظفت أمريكا القاعدة لمواجهة الاتحاد السوفيتي.
والحقيقة أن الشرق الأوسط لا يحركه الدين كمنظومة قيمية أو تشريعية بقدر ما تحركة التنبؤات الدينية التي يتم استخدامها لتغذية الصراع الطائفي. فعلى سبيل المثال، العدل هو أعلى القيم القرآنية، بل إن ابن تيمية (المرجع الأساسي لكل التيارات السلفية التي تسيطر على العقل السني الآن) كتب في “الفتاوى” في “رسالة في الحسبة” ما نصه: (فَإِنَّ النَّاسَ لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي أَنَّ عَاقِبَةَ الظُّلْمِ وَخِيمَةٌ وَعَاقِبَةُ الْعَدْلِ كَرِيمَةٌ وَلِهَذَا يُرْوَى: “اللَّهُ يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الْعَادِلَةَ وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً وَلَا يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الظَّالِمَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُؤْمِنَةً”). ومع ذلك فإن الدول الإسلامية الحالية أبعد ما تكون عن العدل.
هذا عن القيم، فماذا عن التنبؤات؟ رغم أن الأديان الإبراهيمية الثلاثة تتفق على تبوءة واحدة وهي مجيء المسيح في آخر الزمان بعد حرب دموية، لكن كل دين يرى أن المسيح سيجي داعما له ضد الآخرين. ومن أهم التنبؤات الدينية التي أثرت في الشرق الأوسط النبوءة الشيعية بظهور المهدي المنتظر والنبوءات السنية عن جند الشام وعصابة مسلمة يقاتلون على أبواب دمشق وإرشاد الحجر والشجر للمسلمين عن اليهود وتفرق المسلمين على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. وكذلك لعبت التنبؤات الأنجليانية دورا في تأسيس دولة إسرائيل .
لحشر الأقليات في حظيرة الدولة، قامت النظم الديكتاتورية بتخويفهم من الجماعات الدينية والمؤامرات الغربية لتقسيم الوطن، ولكن الواقع أثبت لنا أن الطغاة مجلبة الغزاة، وأن الديكتاتوريات العسكرية انتهت بتقسيم السودان والعراق وسوريا وليبيا واليمن.
ولكن ما الحل لمواجهة الطائفية؟ الحل هو الدولة المدنية التي تقف على مسافة واحدة من كل الطوائف دون أن تتبني مذهبا أو دينا رسميا، وهو نظام الدول التي يهاجر إليها العرب كلما طردتهم الطائفية من بلادهم.
أيمن رفعت
كاتب مصري مقيم في الولايات المتحدة